الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 377 ] حديث خامس وأربعون من البلاغات

مالك ، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : إذا أنشأت بحرية ، ثم تشاءمت فتلك عين غديقة .

التالي السابق


هذا حديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير الموطأ إلا ما ذكره الشافعي في كتاب الاستسقاء ، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا نشأت بحرية ، ثم استحالت شآمية ، فهو أمطر لها .

وابن أبي يحيى مطعون عليه متروك ، وإن كان فيه نبل ويقظة ، اتهم بالقدر والرفض ، وبلاغ مالك خير من حديثه ، والله أعلم .

وأما قوله إذا نشأت بحرية فمعناه : إذا ظهرت سحابة من ناحية البحر وارتفعت ، يقال : أنشأ فلان ، يقول كذا إذا ابتدأ قوله ، وأظهره بعد سكوت ، وكذلك قولهم : أنشأ فلان حائط نخل ، أو بئرا ، أو كرما أي عمل ذلك ، وأظهره للناس ، وكل ما بدأ من الأعمال ، وظهر [ ص: 378 ] فقد أنشأ ، ومنه قول الله - عز وجل - ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ) أي السفن الظاهرات في البحر كالجبال الظاهرات في الأرض ، وإنما سمى السحابة بحرية ، لظهورها من ناحية البحر ، يقول : إذا طلعت سحابة من ناحية البحر ، وناحية البحر بالمدينة الغرب ، ثم تشاءمت ، أي أخذت نحو الشام ، والشام من المدينة في ناحية الشمال ، كأنه يقول : إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى جهة الشمال ، فتلك عين غديقة ، أي ماء معين ، والعين مطر أيام لا يقلع ، وقيل : العين ماء ، عن يمين قبلة العراق ، وقيل : كل ماء مر من ناحية الفرات ، يقول : فتلك سحابة يكون ماؤها غدقا ، والغديق الغزير ، وغديقة تصغير غدقة ، وسمي الرجل الغيداق ; لكثرة سخائه ، ومن هذا قول الله - عز وجل - : ( لأسقيناهم ماء غدقا ) أي غزيرا كثيرا .

قال : كثير


وتغدق أعداد به ومشارب



يقول : يكثر المطر عليه ، وأعداد جمع عد ، وهو الماء الغزير ، ومنه الحديث في الماء العد .

وقال عمر بن أبي ربيعة :


إذا ما زينب ذكرت سكبت الدمع متسقا
كأن سحابة تهمي بماء حملت غدقا



[ ص: 379 ] وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إنما خرج على العرف والعادة ، لا على أنه يعلم نزول الماء بشيء من الأشياء علما صحيحا لا يخلف ( لأن ذلك من علم الغيب ) بل قد صح أن المدرك لعلم شيء من ذلك مرة قد يخطئ فيه من الوجه الذي أصاب مرة أخرى ، فليس بعلم صحيح يقطع عليه ، ومعلوم أن النوء قد يخوي فلا ينزل شيئا ، وإنما هي تجارب تخطيء وتصيب ، وعلم الغيب على صحة هو لله - عز وجل - ، وحده لا شريك له ، ونزول الغيث من مفاتيح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله - عز وجل - .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق الجوهري ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن بكير ، وسعيد بن عفير قالا : حدثنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله .

هكذا حدثني به موقوفا ، عن ابن عمر لم يتجاوزه .

[ ص: 380 ] وقد روي هذا الحديث مرفوعا ، عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، ثم تلا : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) .

وممن رفع هذا الحديث سليمان بن بلال ، وإسماعيل بن جعفر ، وصالح بن قدامة رووه ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال : مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب ، وهذا - عند أهل العلم - محمول على ما كان أهل الشرك يقولونه من إضافة المطر إلى الأنواء ، دون الله تعالى ، فمن قال ذلك واعتقده فهو كافر بالله ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن النوء مخلوق ، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا .

وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، على معنى مطرنا في وقت كذا وكذا ، فإن النوء الوقت في لسان العرب أيضا ، يريد أن ذلك الوقت يعهد فيه ، ويعرف نزول الغيث بفعل الله وفضله ورحمته ، فهذا ليس بكافر .

وقد جاء عن عمر أنه قال للعباس : ما بقي من نوء الثريا ، وما [ ص: 381 ] بقي من نوء الربيع ؟ على العادة ، والعرف عندهم أن تلك الأوقات أوقات أمطار ، إذا شاء ذلك الواحد القهار ، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في باب صالح بن كيسان من هذا الكتاب ، والحمد لله .




الخدمات العلمية