الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        [ ص: 40 ] ( 3 ) باب العمل في المشي إلى الكعبة

                                                                                                                        985 - ذكر فيه مالك ; إن أحسن ما سمعت من أهل العلم ، في الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله ، أو المرأة ، فيحنث ، أو تحنث . أنه إن مشى الحالف منهما في عمرة ، فإنه يمشي حتى يسعى بين الصفا والمروة . فإذا سعى فقد فرغ . وأنه إن جعل على نفسه مشيا في الحج ، فإنه يمشي حتى يأتي مكة . ثم يمشي حتى يفرغ من المناسك كلها . ولا يزال ماشيا حتى يفيض .

                                                                                                                        [ ص: 41 ] 20862 - قال مالك : ولا يكون مشي إلا في حج أو عمرة .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        20863 - قال أبو عمر : أما قوله : أنه سمع أهل العلم ( في الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله ) ، فهذا مذهبه ومذهب من سمع منه في التسوية بين الحالف بالمشي إلى الكعبة وبين الناذر .

                                                                                                                        20864 - وفي قوله : " أحسن ما سمعت " : بيان أنه سمع الخلاف في ذلك .

                                                                                                                        20865 - وأما الناذر فقد مضى الخلاف فيه .

                                                                                                                        20866 - ولا خلاف بين العلماء أن النذر الطاعة يلزم صاحبه الوفاء به ، ولا كفارة فيه .

                                                                                                                        20867 - وأما الحالف إلى مكة ، أو إلى بيت المقدس ، فنذكر الخلاف هنا بعون الله وفضله إن شاء الله .

                                                                                                                        20868 - وأما قوله في الحالف بالمشي ، وهو يريد الحج ، أنه يمشي - يعني من موضعه - حتى يأتي مكة ، ثم يقضي المناسك كلها فعلى هذا أكثر أهل العلم في الناذر دون الحالف .

                                                                                                                        20869 - ويأتي القول في الحالف بالمشي إلى الكعبة فيما بعد إن شاء الله .

                                                                                                                        20870 - ويروى عن ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح ; أنهما قالا : من جعل على نفسه المشي إلى بيت الله ، ركب من بلده ، فإذا جاء الحرم ، نزل إلى أن يطوف طواف الإفاضة إن كان حاجا ، وإن كان معتمرا حتى يسعى بين الصفا والمروة .

                                                                                                                        20871 - وقد روي عن عطاء أنه يركب حتى يأتي الميقات - يعني ميقات [ ص: 42 ] بلده - ثم يمشي إلى أن يتم حجه أو عمرته .

                                                                                                                        20872 - وقال الحسن : يمشي من الأرض التي يكون فيها .

                                                                                                                        20873 - وروي عن مجاهد مثله .

                                                                                                                        20874 - وقاله ابن جريج وجماعة فقهاء الأمصار .

                                                                                                                        20875 - وأما قوله في المشي لا يكون إلا بحج أو عمرة ، فإن مكة لا تدخل إلا بإحرام ، وأقل الإحرام عمرة .

                                                                                                                        20876 - وقد شذ ابن شهاب فأجاز دخولها بغير إحرام .

                                                                                                                        20877 - وسنذكر هذه المسألة في موضعها من كتاب الحج إن شاء الله .

                                                                                                                        20878 - وأما اختلاف العلماء في الحالف في المشي إلى مكة والى البيت الحرام .

                                                                                                                        20879 - فمذهب أبي حنيفة في ذلك كالمشهور من حديث مالك .

                                                                                                                        20880 - قال أبو حنيفة وأصحابه : من حلف بالمشي إلى بيت الله ، أو إلى مكة ، أو إلى الكعبة ، فإنه يمشي وعليه حجة أو عمرة ، فإن ركب في ذلك أجزأه وعليه دم .

                                                                                                                        20881 - قال : ولو حلف بالخروج أو الذهاب إلى الكعبة ، أو حلف بالمشي إلى الحرم ، أو الصفا والمروة ، ثم حلق ، لم يكن عليه شيء ، في قول أبي حنيفة .

                                                                                                                        20882 - وقال أبو يوسف ومحمد : حلفه بالمشي إلى الحرم كالكعبة .

                                                                                                                        20883 - ولا خلاف عن مالك في الحالف كذلك والناذر سواء ، وأنهما [ ص: 43 ] يلزمهما المشي من بلدهما في حج أو عمرة على سنتهما .

                                                                                                                        20884 - وعلى هذا جمهور أصحابه ، إلا رواية جاءت عن ابن القاسم أفتى بها ابنه عبد الصمد رواها الثقات العدول .

                                                                                                                        20885 - أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي .

                                                                                                                        وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم وأحمد بن خالد ، قالا : أخبرنا قاسم بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم : أن عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم أخبره ، قال : حلف أخي بالمشي إلى مكة في بيتي ، فحنث ، فسألت عبد الرحمن بن القاسم عن ذلك ، وأخبرته بيمينه ، فاشتد ذلك عليه وقال : ما دعاه أن يحلف بهذا ؟ قلت : قد فعل ! قال : مره أن يكفر ، فيمينه خبيثة ، ولا يعود .

                                                                                                                        قال عبد الله بن محمد بن علي ، قال لي أحمد بن خالد ، فذكرتها لابن وضاح ; فأنكرها ، وقال لي : المعروف عن ابن القاسم غير ذلك ، فقلت : أخبرني به ثقة ، فقال : من هو ؟ فقال : قلت : قاسم بن محمد ، فسكت .

                                                                                                                        20886 - أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا محمد بن الأصبغ ، يعرف بابن مليح ، قال : حدثنا مقدام بن داود ، عن عمه سعيد بن تليد : أن عبد الرحمن بن القاسم أفتى ابنه [ ص: 44 ] عبد الصمد ، وكان حلف بالمشي إلى مكة ، فحنث ، بكفارة يمين .

                                                                                                                        20887 - قال : وحلف مرة أخرى بصدقة ما يملك ، وحنث ، فأفتاه بكفارة يمين ، وقال له : إني قد أفتيتك بقول الليث ، فإن عدت فلا أفتك إلا بقول مالك .

                                                                                                                        20888 - قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : إذا حلف بالمشي إلى [ ص: 45 ] مكة ، أو بثلاثين حجة ، أو بصيام أوجبه على نفسه باليمين ، أو بغير ذلك من الأيمان سوى الطلاق ; فإن أهل العلم اختلفوا في ذلك .

                                                                                                                        20889 - ففي قول أصحابنا كلهم كفارة يمين ، وليس عليه أكثر من ذلك .

                                                                                                                        20890 - وهو قول الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي عبيد .

                                                                                                                        20891 - فإن حلف بطلاق فقد أجمعت الأمة على أن الطلاق لا كفارة له ، وأنه إن حنث في يمينه ، فالطلاق لازم له .

                                                                                                                        20892 - واختلفوا في العتق .

                                                                                                                        20893 - فقال أكثرهم : الطلاق والعتق سواء لا كفارة في العتاق ، كما لا كفارة في الطلاق .

                                                                                                                        20894 - وهو لازم للحالف به كلزوم الطلاق .

                                                                                                                        20895 - وممن قال ذلك : مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي وأصحابه ، ومحمد بن حنبل ، وأبو عبيد ، وإسحاق .

                                                                                                                        20896 - وقال أبو ثور : من حلف بالعتق ، فعليه كفارة يمين ، ولا عتق عليه .

                                                                                                                        20897 - وذلك أن الله تبارك وتعالى أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف ، فقال : " ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " [ المائدة : 89 ] .

                                                                                                                        يعني : فحنثتم .

                                                                                                                        20898 - فكل يمين حلف بها الإنسان فحنث ، فعليه الكفارة ، على ظاهر [ ص: 46 ] الكتاب ، إلا أن مجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيء ما .

                                                                                                                        20899 - ولم يجمعوا على ذلك إلا في الطلاق ، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة ، وألزمناه الطلاق للإجماع .

                                                                                                                        20900 - وجعلنا في العتق الكفارة ; لأن الأمة لم تجمع على أن لا كفارة فيه .

                                                                                                                        20901 - قال أبو عبد الله : وقد روي عن الحسن ، وطاوس مثل قول أبي ثور .

                                                                                                                        20902 - والذي أذهب إليه ما قاله الشافعي وأحمد : كفارة يمين فيما عدا الطلاق والعتق .

                                                                                                                        20903 - وقد روي عن عائشة : " كل يمين ليس فيها طلاق ولا عتق ، فكفارتها كفارة يمين " .

                                                                                                                        20904 - قال أبو عمر : الخلاف الذي ذكره أبو ثور في العتق هو ما رواه معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن أبي رافع : أن مولاته حلفت بالمشي إلى مكة ، وكل مملوك لها حر ، وهي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل شيء لها في سبيل الله ، إن لم يفرق بينه وبين امرأته ، فسألت ابن عمر ، وابن عباس ، وأبا هريرة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، فكلهم قال لها : كفري يمينك وخلي بينها وبينه ، ففعلت .

                                                                                                                        20905 - رواه عبد الرزاق ، عن معتمر بن سليمان .

                                                                                                                        20906 - قال أبو عمر : وقد روى يونس ، عن الحسن ، أنه جاءه رجل ، [ ص: 47 ] فقال : إني جعلت كل مملوك لي حرا إن شاركت أخي ، قال : شارك أخاك وكفر عن يمينك .

                                                                                                                        20907 - وهو قول القاسم ، وسالم ، وسليمان بن يسار وطاوس وقتادة .

                                                                                                                        20908 - وبه قال أبو ثور .

                                                                                                                        20909 - وذكر داود في الحالف بالمشي إلى مكة وبصدقة ماله أنه لا شيء عليه من كفارة ولا غيرها .

                                                                                                                        20910 - وهو قول الشعبي ، والحاكم والحارث العقيلي وابن أبي ليلى .

                                                                                                                        20911 - وبه قال محمد بن الحسن ; لأن الحالف ليس بناذر طاعة ، فيلزمه الوفاء بها ، ولا بحالف بالله ، فيجب عليه كفارة الحالف باليمين بالله .

                                                                                                                        20912 - ولا يخرج ماله عن نفسه مخرج القربة ، وإنما أخرجه مخرج الحنث في يمينه إن حنث ، وإن لم يحنث لم يخرجه .

                                                                                                                        20913 - وهذا لا يشبه النذر الذي يجب الوفاء به ; لما فيه من التقرب إلى الله وشكره وإنفاذ طاعته ، ولا هو في شيء من ذلك المعنى .

                                                                                                                        20914 - قالوا : والحالف بغير الله ليس بحالف عندنا ; لأن الله تعالى قد نهى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلف بالآباء ، وأن يحلف بغير الله ، إن شاء الله ، وبالله التوفيق .




                                                                                                                        الخدمات العلمية