الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب السادس في الجنين

                                                                                                                                                                        فيه أطراف :

                                                                                                                                                                        الأول : الموجب وهو جناية توجب انفصال الجنين ميتا ؛ فهذه قيود : الأول : الجناية وهي ما يؤثر في الجنين من ضرب ، وإيجار دواء ونحوهما ، ولا أثر للطمة خفيفة ونحوها ، كما لا يؤثر في الدية .

                                                                                                                                                                        الثاني : الانفصال ؛ فلو ماتت الأم ولم ينفصل جنين ، لم يجب على الضارب شيء ؛ وكذا لو كانت منتفخة البطن ، فضربها شخص فزال الانتفاخ ، أو كانت تجد حركة في بطنها فزالت ، لجواز أنه كان ريحا فانفشت ، ثم هل يعتبر انكشاف الجنين بظهور شيء منه أم الانفصال التام ؟ وجهان ، أصحهما : الأول لتحقق وجوده .

                                                                                                                                                                        ويتفرع عليهما ما لو ضرب بطنها ، فخرج رأس الجنين مثلا ، وماتت الأم كذلك ، ولم ينفصل ، أو خرج رأسه ثم جنى عليها فماتت ؛ فعلى الأصح تجب الغرة لتيقن وجوده ، وعلى الثاني لا ، ولو قدت نصفين ، وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل ؛ ففيه الوجهان ، ولو [ ص: 367 ] خرج رأسه وصاح فحز رجل رقبته ؛ فعلى الأصح يجب القصاص والدية ؛ لأنا تيقنا بالصياح حياته ، وإن اعتبرنا الانفصال ؛ فلا قصاص ولا دية .

                                                                                                                                                                        ولو صاح ومات ؛ فوجوب الدية على الخلاف .

                                                                                                                                                                        الثالث : كون المنفصل ميتا ؛ فلو انفصل حيا ، نظر ؛ إن بقي زمانا سالما غير متألم ثم مات ، فلا ضمان على الضارب لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر ، وإن مات عند خروجه أو بقي متألما حتى مات ، وجبت فيه دية كاملة ؛ لأنا تيقنا حياته ؛ فأشبه سائر الأحياء .

                                                                                                                                                                        وسواء استهل ، أو وجد ما يدل على حياته ؛ كتنفس وامتصاص لبن وحركة قوية ؛ كقبض يد وبسطها ، ولا عبرة بمجرد الاختلاج على المشهور ، وإذا علمت الحياة ؛ فسواء كان انتهى إلى حركة المذبوح أم لم ينته ، وبقي يوما ويومين ثم مات ، لأنا تيقنا الحياة في الحالين ، والجناية عليه ، والظاهر موته بها .

                                                                                                                                                                        وسواء انفصل لوقت يعيش فيه ، أو لوقت لا يتوقع أن يعيش ، بأن ينفصل لدون ستة أشهر ، وقال المزني : إن لم يتوقع أن يعيش أو كان انتهى إلى حركة المذبوح ؛ ففيه الغرة دون الدية .

                                                                                                                                                                        ولو قتل شخص هذا الجنين بعد انفصاله ؛ فإن انفصل لا بجناية ، فعلى القاتل القصاص ، كما لو قتل مريضا مشرفا على الموت . وإن انفصل بجناية ، فإن كان فيه حياة مستقرة فكذلك ؛ وإلا فلا شيء على الثاني ، والقاتل هو الأول .

                                                                                                                                                                        ولو انفصل ميتا بعد موت الأم من الضرب ، وجبت الغرة كما لو انفصل في حياتها ؛ لأنه شخص مستقل ؛ فلا يدخل في ضمانها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        سواء في وجوب الغرة كان الجنين ذكرا أو أنثى ؛ ثابت النسب أو غيره ، تام الأعضاء أو ناقصها ، ولو اشترك اثنان في الضرب ؛ فالغرة عليهما ؛ ولو ألقت جنينين ، وجب غرتان ، ولو ألقت حيا وميتا ومات الحي ، وجب دية وغرة ، ولو ضرب بطن ميتة فانفصل منها جنين ميت ، [ ص: 368 ] فلا غرة ؛ كذا قاله البغوي قال القاضي الطبري : يجب لأن الجنين قد يبقى في جوفها حيا ، والأصل بقاء الحياة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ألقت المضروبة يدا أو رجلا وماتت ، ولم ينفصل الجنين بتمامه ؛ فالصحيح وجوب الغرة ، وهو نصه في " المختصر " وفي وجه يجب نصف غرة ؛ لأن اليد تضمن بنصف الجملة ، وهو تفريع على أن الجنين لا يضمن حتى ينفصل كله ، ولو ألقت يدين أو رجلين ، أو يدا ورجلا ، وجبت غرة قطعا .

                                                                                                                                                                        ولو ألقت من الأيدي والأرجل ثلاثا ، أو أربعا ، أو رأسين ؛ فغرة على الصحيح ، وقيل : غرتان ، ولو ألقت بدنين فغرتان ؛ لأن الشخص الواحد لا يكون له بدنان بحال ، كذا ذكره الإمام والغزالي والبغوي وغيرهم ، وحكى الروياني من نص الشافعي رحمه الله خلافه وجوز بدنين لرأس ، كرأسين لبدن .

                                                                                                                                                                        ولو ألقت عضوا ؛ كيد أو رجل ، ثم ألقت جنينا ؛ فله حالان : أحدهما : أن يكون الجنين فقيد ذلك العضو ، فينظر ، إن ألقته قبل الاندمال ، وزوال ألم الضرب ؛ فإن كان ميتا ، لم تجب إلا غرة ، وبقدر العضو مبانا منه بالجناية ، وإن انفصل حيا ، ثم مات من الجناية ، وجب دية ودخل فيها أرش اليد . وإن عاش ، فقد أطلق البغوي وجوب نصف الدية على عاقلة الضارب ، ونقل ابن الصباغ وغيره أنه تراجع القوابل ، فإن قلن : إنها يد من خلق فيه حياة ، وجب نصف الدية .

                                                                                                                                                                        وكذا إن علمنا انفصال اليد منه بعد خلق الحياة ؛ بأن ألقتها ثم انفصل الجنين عقب الضرب ، وإن شككنا في حاله ، وجب نصف الغرة عملا باليقين ، وليكن إطلاق البغوي محمولا على ذا التفصيل .

                                                                                                                                                                        وإن ألقته بعد الاندمال ، لم يضمن الجنين ، حيا كان أو ميتا ، لزوال الألم الحاصل بفعله . وأما اليد ، فإن خرج ميتا فعليه نصف غرة لها ، وإن خرج حيا ومات أو عاش ، فقيل : يجب نصف غرة ، كما لو قطع يد [ ص: 369 ] شخص فاندمل ثم مات ، وقيل : تراجع القوابل كما سبق .

                                                                                                                                                                        ولو ضرب بطنها فألقت يدا ، ثم ضربها آخر فألقت جنينا لا يد له ، فإن ضرب الثاني قبل الاندمال وانفصل الجنين ميتا ، فالغرة عليهما . وإن انفصل حيا ، فإن عاش ، فعلى الأول نصف الدية وليس على الثاني سوى التعزير . وإن مات فعليهما الدية ، وإن ضرب الثاني بعد الاندمال ؛ فإن انفصل ميتا ؛ فعلى الأول نصف الغرة ، وعلى الثاني غرة كاملة . كما لو قطع يد رجل فاندمل ، ثم قتله آخر ؛ فعلى الأول نصف دية وعلى الثاني دية . وإن خرج حيا ، فعلى الأول نصف الدية ، ثم إن عاش فليس على الثاني إلا التعزير . وإن مات ، فعليه دية كاملة .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن ينفصل الجنين كامل الأطراف ؛ فينظر ؛ إن انفصل قبل الاندمال ؛ فمقتضى ما سبق فيمن ألقت ثلاث أيد ، أن يقال : إن انفصل ميتا ، لم يجب إلا غرة واحدة ، لاحتمال أن التي ألقتها كانت يدا زائدة ، وإن انفصل حيا ومات ؛ فالواجب غرة ، وإن عاش ، لم يجب إلا حكومة ؛ وبهذا التفصيل جزم الغزالي ، وفي " التتمة " و " التهذيب " أنه إن انفصل ميتا وجب غرتان ، إحداهما لليد ، والأخرى للجنين .

                                                                                                                                                                        وإن خرج حيا ومات ، وجب دية وغرة ، ولو ألقت أولا جنينا كاملا ، ثم يدا ؛ فالحكم كذلك ، وإن انفصل الجنين بعد الاندمال ، لم يجب بسبب الجنين شيء ، ولو ضربها رجل ، فألقت اليد ، ثم ضربها آخر ، فألقت الجنين ؛ ففي " التهذيب " أن ضمان الجنين على الثاني ؛ سواء ضرب بعد اندمال الأول ، أو قبله ، فإن خرج ميتا وجب فيه غرة . وإن خرج حيا فمات فدية .

                                                                                                                                                                        وقياس ما سبق أن يقال : إن ضرب الثاني قبل الاندمال وانفصل ميتا ، وجبت الغرة عليهما ، وإن انفصل حيا وعاش ؛ فعلى الأول حكومة ، وليس على الثاني إلا التعزير . وإن مات فعليهما الدية .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية