الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث : العدد ، فلا تنعقد بأقل من أربعين ذكورا مكلفين أحرارا مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ، ولا صيفا فإن انفضوا حتى نقص العدد إما في الخطبة أو في الصلاة لم تصح الجمعة ؛ بل لا بد منهم من الأول إلى الآخر .

التالي السابق


الشرط (الثالث : العدد ، فلا تنعقد) الجمعة (بأقل من أربعين) هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، ونقل صاحب التلخيص قولا عن القديم أنها تنعقد بثلاثة : إمام ، ومأمومين ، ولم يثبته عامة الأصحاب . قاله النووي ، وكونها تنعقد بأربعين هو المشهور عن أحمد من رواياته ، وعنه منه تنعقد بخمسين ، وقال مالك : تنعقد بكل عدد تتقرى به قرية في العادة ، ويمكنهم الإقامة ، ويكون بينهم البيع ، والشراء من غير حصر ، إلا أنه منع ذلك في الثلاثة ، والأربعة ، وشبههم ، وعند أصحابنا الجماعة شرط لأدائها ، وهم ثلاثة رجال سوى الإمام ، وهو قول أبي حنيفة ، ومحمد ، وبالإمام عند أبي يوسف ؛ لأن الاثنين مع الإمام جمع ، ولهما أن الجماعة شرط على حدة ، والإمام شرط آخر ، فيعتبر جمع سوى الإمام . والله أعلم .

ويشترط في الأربعين أن يكونوا (ذكورا مكلفين أحرارا مقيمين) على سبيل التوطن بأن (لا يظعنون عنها) ، أي : لا يرحلون عنها (شتاء ، ولا صيفا) إلا لحاجة ، فلو كانوا ينزلون في ذلك الموضع صيفا ، ويرتحلون شتاء ، أو عكسه ، فليسوا بمستوطنين ، فلا تنعقد بهم ، وفي انعقادها بالمقيم الذي يجعل الموضع وطنا له خلاف ، والصحيح عدمه ، وتنعقد بالمرضى على المشهور ، وفي قول شاذ لا تنعقد بهم كالعبيد ، فعلى هذا صفة الصحة شرط رابع ، ثم الصحيح أن الإمام من جملة الأربعين .

والثاني أنه يشترط أن يكون زائدا على الأربعين ، وحكى الروياني الخلاف قولين ؛ الثاني قديم ، والعدد المعتبر في الصلاة ، وهو الأربعون معتبر في سماع الكلمات الواجبة من الخطبتين (فإن) حضر العدد ، ثم (انفضوا) كلهم ، أو بعضهم (حتى نقص العدد) بأن بقي دون أربعين ، فإما ينفضون قبل الخطبة ، و (إما في الخطبة) ، أو بعدها (أو في الصلاة) ، فإن انفضوا قبل افتتاح الخطبة لم يبتدئها حتى يجتمع أربعون ، وإن كان في أثنائها ، فلا خلاف أن الركن المأتي به في غيبتهم غير محسوب . أما إذا أحرم بالعدد المعتبر ، ثم حضر أربعون آخرون ، وأحرموا ، ثم انفض الأولون ، فلا يضر ؛ بل يتم الجمعة ، سواء كان اللاحقون سمعوا الخطبة أم لا . وأما إذا انفضوا فنقص العدد في باقي الصلاة ، ففيه خمسة أقوال منصوصة ، ومخرجة أظهرها (لم تصح الجمعة ؛ بل لا بد منهم من الأول إلى الآخر) ، فعلى هذا لو أحرم الإمام ، وتبطأ المقتدون ، ثم أحرموا ، فإن تأخر تحرمهم عن ركوعه ، فلا جمعة ، وإن لم يتأخروا عن ركوعه ، فقال القفال : تصح الجمعة ، وقال الشيخ أبو محمد : يشترط أن لا يطول الفصل بين إحرامه وإحرامهم ،

[ ص: 221 ] وقال إمام الحرمين : الشرط أن يتمكنوا من إتمام الفاتحة ، فإذا حصل ذلك لم يضر الفصل ، وهذا وهو الأصح عند الغزالي ، والقول الثاني : إن بقي اثنان مع الإمام أتم الجمعة ، وإلا بطلت . الثالث : إن بقي معه واحد لم تبطل ، وهذه الثلاثة منصوصة ، الأولان في الجديد ، والثالث قديم ، ويشترط في الواحد ، والاثنين كونهما بصفة الكمال ، وقال صاحب التقريب : في اشتراط الكمال احتمال ؛ لأنا اكتفينا باسم الجماعة ، وقال النووي : هذا الاحتمال حكاه صاحب الحاوي وجها محققا لأصحابنا حتى لو بقي صبيان ، أو صبي كفى ، والصحيح اشتراط الكمال . قال في النهاية : احتمال صاحب التقريب غير معتد به ، والرابع لا تبطل ، وإن بقي وحده ، والخامس : إن كان الانفضاض في الركعة الأولى بطلت الجمعة ، وإن كان بعدها لم تبطل ، ويتم الإمام الجمعة وحده ، وكذا من معه إن بقي معه أحد .



(فصل)

وعند أصحابنا الشرط لانعقاد أدائها بالثلاثة بقاؤهم محرمين مع الإمام حتى يسجد السجدة الأولى ، فإن انفضوا بعد سجوده أتمها وحده جمعة ، هذا قول أبي حنيفة ، وصاحبيه ، وقال زفر : ويشترط دوامهم كالوقت إلى تمامها ، وإن انفضوا كلهم ، أو بعضهم ، ولم يبق سوى اثنين قبل سجود الإمام بطلت عند أبي حنيفة ، وعندهما إذا انفضوا جميعا يتمها جمعة ؛ لأن الجماعة شرط انعقاد الأداء عنده ، وعندهما شرط انعقاد التحريمة لهما أن الجماعة كما كانت شرطا لانعقاد التحريمة في حق المقتدي ، فكذا في حق الإمام ، والجامع إن تحريمته صحت صح بناء الجمعة عليها لمن أدركها في التشهد ، ولأبي حنيفة أن الجماعة في حق الإمام لو جعلت شرطا لانعقاد التحريمة لأدى إلى الحرج ؛ لأن تحريمته حينئذ لا تنعقد بدون مشاركة الجماعة إياه فيها ، وذا لا يحصل إلا أن تقع تكبيرتهم مقارنة لتكبيرته ، وأنه متعذر ، فجعلت شرط انعقاد الأداء ، وهو بتقييد الركعة بسجدة ؛ لأن الأداء فعل ، وفعل الصلاة هو القيام ، والقراءة ، والركوع ، والسجود . والله أعلم .



إشارة تتعلق باعتبار العدد

من قال : إن الجمعة تنعقد بواحد مع الإمام ، فقوله حظ من يعرف أحدية الحق من أحدية نفسه ، فيتخذ أحدية نفسه على أحدية ربه دليلا ، وتلك الأحدية هي على الحقيقة أنيته وهويته ، فيعلم من ذلك أن ربه على خصوص وصف في هويته لا يمكن أن يكون ذلك لغيره ، وأما من قال : اثنان ، فهو الذي يعرف توحيده من النظر في شفعيته ، فيرى كل ما سوى الحق لا يصح له الانفراد بنفسه ، وأنه مفتقر إلى غيره ، فهو مركب من عينه ، ومن اتصافه بالوجود المستفاد الذي لم يكن له من حيث عينه ، وأما من قال : بالثلاثة ، وهي أول الأفراد ، فهو الذي يرى أن المقدمتين لا تنتج إلا برابط ؛ فهي أربعة في الصورة وثلاثة في المعنى ، فيرى أنه ما عرف الحق إلا من معرفته بالثلاثة ، فاستدل بالمفرد على الواحد ، وهو أقرب في النسبة من الاستدلال بالشفع على الأحدية ، وأما من قال بالأربعين فاعتبر الميقات الموسوي الذي أنتج له معرفة الحق من حيث ما قد علم من قصته المذكورة في القرآن ، وكذلك أيضا من حصلت له معرفة ربه من إخلاصه أربعين صباحا ، وهي الخلوة المعروفة في طريق القوم ، وأما من قال بالثلاثين فنظره إلى الميقات الأولي الموسوي ، وعلم أن ذلك هو حد المعرفة ، إلا أنه طرأ أمر أخل به فزاد عشرا جبرا لذلك الخلل ، فهو في المعنى ثلاثون ، فمن سلم ميقاته من ذلك الخلل ، فإن مطلوبه من العلم بالله يحصل بالثلاثين ، وأما من لم يشترط عددا ، وقال بدون الأربعين ، وفوق الأربعة التي هي عشر الأربعين ، فإن الأربعين قامت من ضرب الأربعة في العشرة ؛ فهي عشر الأربعين ، فكما أنه نزل عن الأربعين ارتفع عن الأربعة ، ولم يقف عندها ، فيقول : لا تصح المعرفة بالله إلا بالزائد على الأربعة ، وأقل ذلك الخمسة ، وهي المرتبة الثانية من الفردية ، والمرتبة الأولى هي الثلاثة ، وهي للعبد ، فإنها هي التي نتجت عنها معرفة الحق ، فمن قال : تجوز الجمعة بالثلاثة ، ويرى صاحب هذا القول - أعني الذي يقول بالزائد على الأربعة - أن الفردية الثانية هي للحق ، وهو ما حصل للعبد من العلم بفرديته الثلاثية ، فكان الحاصل فردية الحق لا أحديته ؛ لأن أحديته لا يصح أن ينتجها شيء بخلاف الفردية ، ولما كان أولى الأفراد للعبد من أجل الدلالة ، فإن المعرفة بنفس العبد مقدمة على معرفة العبد

[ ص: 222 ] بربه ، والدليل يناسبه المدلول للوجه الرابط بين الدليل والمدلول ، فلا ينتج الفرد إلا الفرد ، فأول فرد تلقاه بعد الثلاثة ، فردية الخمسة ، فجعلها للحق ؛ أي : لمعرفة الحق في الرتبة الخامسة ، فما زاد إلى ما لا يتناهى من الأفراد فقط بأن لك في الاعتبار منازل التوقيت فيما تقوم به صلاة الجمعة من اختلاف الأحوال . والله أعلم .



إشارة أخرى في المقيم والمسافر

اعلم أن أهل طريق الله على قسمين ؛ منهم من لا يزال يتغير عليه الحال مع الأنفاس ، وهم الأكابر من الرجال ، فهم مسافرون على الدوام ، فمن المحال عليهم الاستيطان ، وهم في ذلك على نظرين ، فمن كان نظره ثبوته في مقام مراعاة الأنفاس ، وذوق تغيرها ، وتنوعات التجليات دائما في كل نفس ، كنى عن ثبوته في هذا الحال بالاستيطان ، فجعل الاستيطان من شرط صحة صلاة الجمعة ، ووجوبها ، وإن كان مسافرا في استيطانه كسفر صاحب السفينة . قال بعضهم في ذلك :


فسيرك يا هذا كسير سفينة بقوم جلوس والقلوع تطير



ومن كان من رجال دون هذه المرتبة ، وإقامهم الحق في مقام واحد زمانا طويلا ، فهو أيضا من أهل الاستيطان ، فيقيم الجمعة ، ويرى أن ذلك من شروط الصحة ، والوجوب ، ومن كان نظره في انتقاله في الأحوال ، والمشاهدات ، ويرى أن الإقامة محال في نفس الأمر ، وأن سفره مثل سفر صاحب السفينة ، فما يظهر له ، والأمر في نفسه بخلاف ذلك لم يشترط الاستيطان ، وقال بصحة الجمعة ، ووجوبها بمجرد العدد لا بالاستيطان . والله أعلم .




الخدمات العلمية