الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 432 ] باب القسم [ ص: 433 ] وإذا كان للرجل امرأتان حرتان فعليه أن يعدل بينهما في القسم بكرين كانتا أو ثيبين أو إحداهما بكرا والأخرى ثيبا ) لقوله عليه الصلاة والسلام { من كانت له امرأتان ومال إلى إحداهما في القسم جاء يوم القيامة وشقه مائل } وعن عائشة رضي الله عنها { أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعدل في القسم بين نسائه . وكان يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك : يعني زيادة المحبة } ولا فصل فيما روينا . والقديمة والجديدة سواء لإطلاق ما روينا [ ص: 434 ] ولأن القسم من حقوق النكاح ولا تفاوت بينهن في ذلك ، والاختيار في مقدار الدور إلى الزوج ; لأن المستحق هو التسوية دون طريقه .

التالي السابق


( باب القسم ) لما فرغ من ذكر النكاح وأقسامه باعتبار من قام به من المسلمين الأحرار والأرقاء والكفار وحكمه اللازم له من المهر شرع في حكمه الذي لا يلزم وجوده وهو القسم ، وذلك ; لأنه إنما يثبت على تقدير تعدد المنكوحات ونفس النكاح لا يستلزمه ولا هو غالب فيه . والقسم بفتح القاف مصدر قسم ، والمراد التسوية بين المنكوحات ويسمى العدل بينهن أيضا ، وحقيقته مطلقا ممتنعة كما أخبر سبحانه وتعالى حيث قال { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } وقال تعالى { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } بعد إحلال الأربع بقوله تعالى { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } فاستفدنا أن حل الأربع مقيد بعدم خوف عدم العدل وثبوت المنع عن أكثر من واحدة عند خوفه ، فعلم إيجابه عند تعددهن .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم { استوصوا بالنساء خيرا } فلا يخص حالة تعددهن ; ولأنهن رعية الرجل وكل راع مسئول عن رعيته وإنه في أمر مبهم يحتاج إلى البيان ; لأنه أوجبه ، وصرح بأنه مطلقا لا يستطاع ، فعلم أن الواجب منه شيء معين ، وكذا السنة جاءت مجملة فيه .

روى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك : يعني القلب } أي زيادة المحبة ، فظاهره أن ما عداه مما هو داخل تحت ملكه وقدرته تجب التسوية فيه ، ومنه عدد الوطآت والقبلات والتسوية فيهما غير لازمة إجماعا ، وكذا ما روى أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل } أي مفلوج ، ولفظ أبي داود والنسائي { فمال إلى إحداهما على الأخرى } فلم يبن في ماذا ، وأما ما في الكتاب [ ص: 433 ] من زيادة قوله في القسم فالله أعلم بها لكن لا نعلم خلافا في أن العدل الواجب في البيتوتة والتأنيس في اليوم والليلة ، وليس المراد أن يضبط زمان النهار فيقدر ما عاشر فيه إحداهما فيعاشر الأخرى بقدره بل ذلك في البيتوتة ، وأما النهار ففي الجملة ( قوله وإذا كان للرجل امرأتان حرتان فعليه أن يعدل بينهما ) التقييد بحرتين لإخراج ما إذا كانت إحداهما أمة والأخرى حرة لا لإخراج الأمتين . ثم ظاهر العبارة ليس بجيد فإنه يعطي أنهما إذا لم يكونا حرتين ليس عليه أن يعدل بينهما وليس بصحيح ، لكن معنى العدل هنا التسوية لا ضد الجور ، فإذا كانتا حرتين أو أمتين فعليه أن يسوي بينهما ، وإن كانتا حرة وأمة فلا يعدل بينهما : أي لا يسوي بل يعدل بمعنى لا يجور ، وهو أن يقسم للحرة ضعف الأمة فالإيهام نشأ من اشتراك اللفظ .

( قوله : والقديمة والجديدة سواء لإطلاق ما روينا ) وهو معنى قوله لا فصل فيما ذكرنا فكان الأولى أن يقال لما ذكرنا : يعني من قوله ولا فصل إلخ : يعني أن ما رويناه يوجب التسوية بين الجديدة والقديمة ، وكذلك ما تلونا من الآية فنحتج به .

وعند الشافعي أنه يقيم عند البكر الجديدة أول ما يدخل بها سبعا يخصها بها ثم يدور وعند الثيب الجديدة ثلاثا إلا إن طلبت زيادة على ذلك فحينئذ يبطل حقها ويحتسب عليها بتلك المدة ، لما روي عن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { للبكر سبع وللثيب [ ص: 434 ] ثلاث ثم يعود إلى أهله } أخرجه الدارقطني عنه .

وروى البزار من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للبكر سبعا وللثيب ثلاثا } وعنه قال : { من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم } رواه الشيخان في الصحيحين .

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة { لما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها أقام عندها ثلاثا ثم قال : إنه ليس بك على أهلك هوان ، إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي } وهذا دليل استثناء الشافعي ما ذكرنا من أنه يسقط حقها ويحتسب عليها بالمدة إن طلبت زيادة على الثلاث ولأنها لم تألف صحبته ، وقد يحصل لها في أول الأمر نفرة فكان في الزيادة إزالتها . ولنا ما روينا من غير فصل وما تلونا وما ذكر من المعنى وهو قوله ( ولأن القسم من حقوق النكاح ولا تفاوت بينهن في ذلك ) فلا تفاوت بينهن في القسم .

وأما المعنى الذي علل به فمعارض بأن تخصيص القديمة به أولى ; لأن الوحشة فيها متحققة وفي الجديدة متوهمة ، وإزالة تلك النفرة تمكن بأن يقيم عندها السبع ثم يسبع للباقيات ولم تنحصر تخصيصها . واعلم أن المروي إن لم يكن قطعي الدلالة في التخصيص وجب تقديم الآية ، والحديث المطلق لوجوب التسوية وإن كان قطعيا وجب اعتبار التخصيص بالزيادة فإنه لا يعارض ما روينا وتلونا ; لأن مقتضاهما العدل ، وإذا ثبت التخصيص شرعا كان هو العدل فإنا نراه لم ينحصر في التسوية بل يتحقق مع عدمها لعارض وهو رق إحدى المرأتين حتى كان العدل أن يكون لإحداهما يوما وللأخرى يومين ، فليكن أيضا بتخصيص الجديدة الدهشة بالإقامة سبعا إن كانت بكرا وثلاثا إن كانت ثيبا لتألف بالإقامة وتطمئن .

هذا وكما لا فرق بين الجديدة والقديمة كذلك لا فرق بين البكر والثيب والمسلمة والكتابية الحرتين والمجنونة التي لا يخاف منها والمريضة والصحيحة والرتقاء والحائض والنفساء والصغيرة التي يمكن وطؤها والمحرمة والمظاهر منها ومقابلاتهن ، وكذلك يستوي وجوبه على العنين والمجبوب والمريض والصبي الذي دخل بامرأته ومقابليهم . قال مالك : ويدور ولي الصبي به على نسائه ; لأن القسم حق العباد وهم من أهله ، وصح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرض استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة فأذن له } ( قوله والاختيار في مقدار الدور إلى الزوج ; لأن المستحق هو التسوية دون طريقه ) إن شاء يوما يوما وإن شاء يومين يومين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا أربعا . واعلم أن هذا الإطلاق لا يمكن اعتباره على صرافته ، فإنه لو أراد أن يدور سنة سنة ما يظن إطلاق ذلك له ، بل ينبغي أن لا يطلق له مقدار مدة الإيلاء وهو أربعة أشهر ، وإذا كان وجوبه للتأنيس ودفع الوحشة وجب أن تعتبر المدة القريبة ، وأظن أكثر من جمعة مضارة إلا أن ترضيا به والله أعلم .




الخدمات العلمية