الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد .

                          [ ص: 113 ] هذه الآيات الثلاث في إنجاء لوط بأهله إلا امرأته وإهلاك قومه .

                          - قالوا يا لوط إنا رسل ربك - من ملائكته ، أرسلنا لتنجيتك من شرهم وإهلاكهم - لن يصلوا إليك - بسوء في نفسك ولا فينا ، وحينئذ طمس الله أعينهم فلم يعودوا يبصرون لوطا ولا من معه كما قال - تعالى - في سورة القمر : - ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم - 54 : 37 فانقلبوا عميانا يتخبطون : - فأسر بأهلك بقطع من الليل - أي : فاخرج من هذه القرية أو القرى مصحوبا بأهلك بطائفة من الليل تكفي لتجاوز حدود هؤلاء القوم . والسري ( بالضم ) والإسراء في الليل كالسير في النهار ، قرئ ( أسر ) بقطع الهمزة ووصلها منهما حيث وقعت في القرآن . وفي سورة الذاريات : - فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين - 51 : 35 و 36 ، - ولا يلتفت منكم أحد - إلى ما وراءه لئلا يرى العذاب فيصيبه ، وفي سورة الحجر - وامضوا حيث تؤمرون - 15 : 65 وقد بينه لهم الملائكة : - إلا امرأتك - وكانت كافرة خائنة ضلعها مع القوم - إنه مصيبها ما أصابهم - أي مقضي هذا عليها فهو واقع لابد منه ، قرئ " امرأتك " بالنصب وبالرفع ، - إن موعدهم الصبح - أي : موعد عذابهم يبتدئ من طلوع الفجر ، وينتهي بشروقها كما قال في سورة الحجر : فأخذتهم الصيحة مشرقين 15 : 73 وهذا تعليل للإسراء ببقية من الليل كما قلنا : - أليس الصبح بقريب - أي : موعد قريب لم يبق له إلا ليلة واحدة تنجو فيها بأهلك . وهذا تقرير مؤكد لما قبله ، وجواب عن استعجال لوط لهلاكهم ، وحكمته أنهم يكونون مجتمعين فيه في مساكنهم فلا يلفت أحد منهم .

                          - فلما جاء أمرنا - أي : عذابنا أو موعده - جعلنا عاليها سافلها - أي : قلبنا أرض ها أو قراها كلها وخسفنا بها الأرض ، وسنة الله - تعالى - في خسف الأرض في قطر من الأقطار أن يحدث تحتها فراغ بقدرها ، بسبب تحول الأبخرة التي في جوفها بمشيئته وقدرته فينقلب ما فوقه إما مستويا وإما مائلا إلى جانب من الجوانب إن كان الفراغ تحته أوسع ، وفي بعض هذه الأحوال يكون عاليها سافلها ، ويجوز أن يكون معنى جعل عاليها سافلها ؛ أن ما كان سطحا لها هبط وغار فكان سافلها وحل محله غيره من اليابسة المجاورة أو من الماء ، والمرجح عند علماء الأرض أن قرى لوط التي خسف بها تحت الماء المعروف ببحر لوط أو بحيرة لوط ، وقيل من عهد قريب أن الباحثين عثروا على بعض آثارها كما تقدم - وأمطرنا عليها - أي : قبل القلب أو في أثنائه ، وحكمته أن يصيب الشذاذ المتفرقين من أهلها حجارة من سجيل ، وفي سورة الذاريات - لنرسل عليهم حجارة من طين - 51 : 33 فالمراد إذا حجارة من مستنقع ، وقال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين ، وقال الحسن : أصل الحجارة طين متحجر ، والمعقول ما قلنا ، وهو موافق لقول الراغب : السجيل : حجر وطين مختلط أصله [ ص: 114 ] فارسي فعرب ، وقيل إنه من النار وأصله سجين فأبدلت نونه لاما . وهو موافق لرواية سفر التكوين ، فإن صح يكون من بركان من البراكين ، ومثل هذا المطر يحصل عادة بإرسال الله إعصارا من الريح يحمل ذلك من بعض المستنقعات أو الأنهار فتلقيها حيث يشاء ، ولا يمنع أن يكون هذا بتدبير الملائكة الموكلين بالأرض - منضود - أي متراكب بعضه في أثر بعض يقع طائفة بعد طائفة - مسومة عند ربك - لها سومة ، أي علامة خاصة في علم ربك أيها الرسول ، أي أمطرناها خاصة بها لا تصيب غير أهلها ، أو هي من قولهم : سومت فلانا في مالي أو في الأمر إذا حكمته فيه وخليته وما يريد ، لا تثنى له يد في تصرفه ، وقد ظهر لي هذا المعنى الآن من مراجعة مجاز الأساس ، والمعنى أنه سخرها عليهم وحكمها في إهلاكهم لا يمنعها منه شيء ، كما قال في الملائكة التي أمد الله بها المؤمنين في غزوة بدر - مسومين - 3 : 125 وزعم بعض المسرفين أن هذا التسويم كان حسيا بخطوط في ألوانها ، وأمثال الخواتيم عليها ، أو بأسماء أهلها ، ولكن هذا من أمور الغيب لا يثبت إلا بنص عن المعصوم ولا نص ، وما قلناه مفهوم من اللفظ ، ومعقول في نفسه ليس فيه رجم بالغيب .

                          - وما هي من الظالمين ببعيد - أي وما هذه العقوبة أو القرى أو الأرض التي حل بها العذاب المخزي بمكان بعيد المسافة من مشركي مكة الظالمين لأنفسهم بتكذيبك والتماري بنذرك أيها الرسول ، بل هي قريبة منهم واقعة على طريقهم في رحلة الصيف إلى الشام كما قال في سورة الحجر : فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم 15 : 73 - 76 أي في طريق ثابت معروف بين المدينة والشام ، وقال في سورة الصافات بعد ذكر هلاكهم : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون 37 : 137 و 138 قال الجلال : - وإنكم لتمرون عليهم - على آثارهم ومنازلهم في أسفاركم - مصبحين - أي : وقت الصباح ، يعني بالنهار - وبالليل أفلا تعقلون - ما حل بهم فتعتبروا به . انتهى .

                          والتعبير بصفة الظالمين وكون العقوبة آية مرادة لا مصادفة ، يجعل العبارة عبرة لكل الأقوام الظالمة في كل زمان ، وإن كان العذاب يختلف باختلاف الأحوال من أنواع الظلم وكثرته وعمومه وما دونهما ، وقيل : إن المعنى المتبادر أن هذه العاقبة ليست ببعيدة من الظالمين من قوم لوط بل نزلت بهم عن استحقاق ، أو من مشركي مكة ، وقدم هذا من قدمه من المفسرين وأخر ما قلناه ، ولكنه هو الذي تؤيده شواهد القرآن .

                          وفي خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات ، أن جبريل - عليه السلام - قلعها من تخوم الأرض بجناحه ، وصعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب والدجاج فيها ، ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها ، وهذا تصور مبني على اعتقاد متصوره أن [ ص: 115 ] الأجرام المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب منهم سكان الأرض وما فيها من الحيوان ويبقون أحياء . وقد ثبت بالمشاهدة والاختبار الفعلي في هذه الأيام التي نكتب هذا فيها ، أن الطيارات والمناطيد التي تحلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء ويستحيل حياة الناس فيها ، وهم يصنعون أنواعا منها يضعون فيها من أوكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه وتنفسه للحياة في طبقات الجو العليا ويصعدون فيها ، وقد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله - تعالى - : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء 6 : 125 .

                          ( فإن قيل ) : إن هذا الفعل المروي عن جبريل - عليه السلام - من الممكنات العقلية وكان وقوعه من خوارق العادات ، فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات : ( قلت ) : نعم ، ولكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن والنواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران وخراب ، أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه ولا علة على الأقل ، ولم يذكر في كتاب الله - تعالى - ولم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا تظهر حكمة الله فيه ، وإنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة ولا شك أنه من الإسرائيليات ، ومما قالوه فيها أن عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف ، وبلاد فلسطين كلها لا تسع هذا العدد فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع ؟

                          وهذه الإسرائيليات المشوهة لهذه القصة كغيرها من قصص الأنبياء مخالفة لما عند باثيها من زنادقةاليهود في توراتهم ، وملخص ما في الفصل التاسع من سفر التكوين الخاص بلوط - عليه السلام - وقومه أن الملكين اللذين أتياه بصورة رجلين ضربا بالعمى جميع قومه وقالا له : أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة أخرج من هذا المكان ؛ لأننا مهلكان أهل هذا المكان ; إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكه ) فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال قوموا واخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة ، فكان كمازح في أعين أصهاره ، ولما طلع الفجر كان الملاكان يعجلان لوطا قائلين : قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة ، ثم أخرجاه ودفعاه إلى مدينة اسمها صوغر ووعداه بعدم إهلاكها ومعه امرأته وبنتاه ، وأمراه بألا ينظر وراءه ( ثم قال : وإذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء ، وقلبت تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض ، ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح ، وبكر إبراهيم في الغد إلى [ ص: 116 ] المكان الذي وقف فيه أمام الرب وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ، ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون ) .

                          ومقتضى هذه الرواية أنه لم ينج مع لوط إلا ابنتان له . وقد ختم الفصل بما يتبرأ منه المسلمون كغيره مما يخالف القرآن ، وهو أن ابنتي لوط الناجيتين كانت إحداهما بكرا والأخرى ثيبا ، وأنهما أسكرتا أباهما بالخمر مرة بعد أخرى وباتتا معه فحملتا منه ، وولدتا أولادا وبقي نسلهما منه متسلسلا . يقول الكاتب : ( إلى اليوم ) وهم الموابيون وبنو عمون ! فمن كتب هذا ومتى كتبه ؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله - تعالى - ، وكل ما خالف القرآن فهو باطل ، وما فسرناه به هو الظاهر المتبادر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية