الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 394 ] حديث تاسع ، وأربعون من البلاغات

مالك ، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم الاثنين ، ودفن يوم الثلاثاء ، وصلى الناس عليه أفذاذا لا يؤمهم أحد ، فقال ناس : يدفن عند المنبر ، وقال آخرون : يدفن بالبقيع ، فجاء أبو بكر فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه ، فحفر له فيه ، فلما كان ، عند غسله أرادوا نزع قميصه ، فسمعوا صوتا يقول : لا تنزعوا القميص ، فلم ينزع القميص ، وغسل وهو عليه - صلى الله عليه وسلم - .

التالي السابق


قال أبو عمر :

هذا الحديث لا أعلمه يروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالك هذا ، ولكنه صحيح من وجوه مختلفة ، وأحاديث شتى جمعها مالك ، والله أعلم .

فأما ، وفاته يوم الاثنين ، فقرأت على أبي القاسم خلف بن القاسم بن سهل أن أبا بكر محمد بن أحمد بن المسور حدثهم ، قال : حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن معاوية العتبي قال : حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثني الليث بن سعد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : [ ص: 395 ] أخبرني أنس بن مالك أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر من يوم الاثنين ، وأبو بكر - رضي الله عنه - يصلي بهم لم يفجئهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كشف حجرة عائشة ، فنظر إليهم ، وهم صفوف في الصلاة ، فتبسم يضحك ، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يخرج إلى الصلاة .

قال أنس : فهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أن أتموا صلاتكم ، ثم دخل الحجرة ، وأرخى الستر ، قال أنس بن مالك : فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم
.

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدثنا إبراهيم بن سعد قال : أخبرنا ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن الزهري ، عن أنس قال : لما كان يوم الاثنين الذي قبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن أبا بكر قال لعائشة : أي يوم توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت يوم الاثنين .

وهذا لا خلاف بين العلماء فيه ، وقالت عائشة توفي بين سحري ، ونحري ، وفي يومي ، ودولتي لم أظلم فيه أحدا ، ذكره ابن إسحاق ، عن يحيى بن [ ص: 396 ] عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة بالإسناد المتقدم ، عن ابن إسحاق .

وأما دفنه يوم الثلاثاء فمختلف فيه ، فمن أهل العلم بالسير من يصحح ذلك على ما قال مالك ، ومنهم من يقول : دفن ليلة الأربعاء ، وقد جاء الوجهان في أحاديث بأسانيد صحيحة .

حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن شريك بن أبي نمر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفن يوم الثلاثاء .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدر عائشة حين زاغت الشمس فشغل الناس ، عن دفنه بشأن الأنصار ، فلم يدفن حتى كانت العتمة ، ولم يله إلا أقاربه ، ولم يصل الناس عليه إلى عصبا بعضهم قبل بعض .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن امرأته فاطمة ابنة محمد بن عمارة ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : ما علمنا بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء .

قال : ابن إسحاق ، وحدثتني فاطمة بنت محمد بن عمارة بهذا الحديث .

[ ص: 397 ] وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن فاطمة بنت محمد بن عمارة ، عن عمرة ، عن عائشة فذكره .

وأما صلاة الناس عليه أفذاذا ، فمجتمع عليه ، عند أهل السير ، وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه ، وقد ذكرناه عن ابن شهاب أيضا في هذا الباب ، وهو محفوظ في حديث سالم بن عبيد الأشجعي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الحديث الطويل في مرضه ، ووفاته - صلى الله عليه وسلم - أخبرناه عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن العباس الكابلي قال : حدثنا عاصم بن علي قال : حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن سلمة بن نبيط ، عن نعيم بن أبي هند ، عن نبيط بن شريط ، وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن سالم بن عبيد ، - وكان من أهل الصفة - فذكر الحديث ، قال فيه : فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا قوما أميين ، ولم يكن فيهم نبي قبله ، قال عمر : لا يتكلمن بموته أحد إلا ضربته بسيفي هذا ، فقالوا لي : اذهب إلى صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فادعه يعني أبا بكر قال : فذهبت أمشي فوجدته في المسجد ، فأجهشت ، فقال لي : لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ، فقلت : إن عمر قال : لا يتكلمن بموته أحد إلا ضربته بسيفي هذا ، قال : فأخذ بساعدي ، ثم أقبل يمشي حتى دخل بيته فأكب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كاد وجهه يمس وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استبان له أنه قد توفي ، فقال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) قالوا : يا صاحب رسول الله [ ص: 398 ] توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ، قال : قالوا : يا صاحب رسول الله هل يصلى على الأنبياء ؟ قال : يجيء قوم فيكبرون ، ويدعون ، ويجيء آخرون حتى يفرغ الناس ، قال : فعرفوا أنه كما قال ، ثم قال : قالوا : يا صاحب رسول الله هل يدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : نعم ، قالوا : أين ؟ قال : حيث قبض الله روحه ، فإنه لم يقبضه إلا في مكان طيب ، قال : فعرفوا أنه كما قال ، ثم قال : عندكم صاحبكم ، ثم خرج فاجتمع إليه المهاجرون ، وذكر تمام الحديث .

ورواه مسدد بن مسرهد قال : حدثنا عبد الله بن داود قال : حدثنا سلمة بن نبيط ، عن نعيم بن أبي هند ، عن نبيط بن شريط ، عن سالم بن عبيد قال : قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر : لا أسمع رجلا يقول : مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ضربته بالسيف ، وكانوا أميين ، ولم يكن فيهم نبي قبله ، فقال : اسكتوا أو اسكنوا ، قالوا : يا سالم بن عبيد ، اذهب إلى صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فادعه ، وساق الحديث بمعنى ما تقدم إلى آخره .

وأما دفنه في الموضع الذي دفن فيه ، وحديث أبي بكر في ذلك فمعروف أيضا ، رواه عن أبي بكر عائشة ، وابن عباس .

حدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا أبو معاوية ، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : اختلفوا في دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 399 ] حين قبض ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه ، فقال : ادفنوه حيث قبض .

وحدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب بن حبيب الرقي قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق قال : وجدت في كتابي عن أبي كريب قال : حدثنا أبو معاوية قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن أبي بكر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره .

وحدثنا إبراهيم بن شاكر ، ( قال : حدثنا محمد بن أحمد ) قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل قال : حدثني جدي عبيد بن عقيل قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن أبي بكر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض .

وحدثنا ابن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا محمد بن عثمان العقيلي ، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني حسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض .

[ ص: 400 ] وقد استدل قوم على فضل المدينة بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، وأن المولود يخلق من التربة التي يدفن فيها ، ورووا بذلك أثرا .

وقد ، أخبرنا خلف بن أحمد ، حدثنا أحمد بن مطرف ، حدثنا سعيد بن عثمان ، حدثنا مالك بن عبد الله بن سيف قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف ، عن داود بن أبي هند قال : حدثني عطاء الخراساني أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة ، فيخلق من التراب ، ومن النطفة ، وذلك قوله : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) .

وأما قصة نزع القميص ، وأنه غسل في قميصه - صلى الله عليه وسلم - فقد روى مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل في قميص ، وقد ذكرنا هذا الخبر في باب جعفر بما يغني ، عن ذكره هاهنا ، وقد روي هذا الحديث مسندا من وجه صحيح من حديث أهل المدينة ذكروا التخيير ، والحديث كله .

وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا النفيلي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني يحيى بن عباد ، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال : سمعت عائشة تقول لما أرادوا غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : والله ما ندري أنجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثيابه كما [ ص: 401 ] نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه ؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجلا إلا وذقنه في صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه ثيابه فقاموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسلوه ، وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم ، وكانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه .

وذكر مالك في باب دفن الميت أنه بلغه أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : ما صدقت بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعت ، وقع الكرازين ، ولا أحفظه ، عن أم سلمة متصلا ، والمعروف حديث عائشة ، ما علمنا بدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن صح حديث أم سلمة فلعله أن يكون أدركها من الجزع عليه ما أدرك عمر - رضي الله عنه - فظنت أنه غشي عليه ، وأسري به إلى ربه على نحو ما ظن عمر حين خطبهم فقال : إن محمدا لم يمت ، وإنه ذهب به إلى ربه ، وسيرجع فيقطع أيدي رجال ، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) [ ص: 402 ] الآية قال : عمر فكأني لم أسمع هذه الآية إلا يومئذ .

قال أبو عمر :

الكرازين يعني المساحي والمحافر ، وقد ذكرنا هذا الخبر من حديث عائشة مسندا في هذا الباب ، والحمد لله .

وقد مضى في باب جعفر بن محمد خبر غسله في قميصه - صلى الله عليه وسلم - ، وجرى ذكره هاهنا لما في خبر مالك من ذلك ، ولم يختلف في أن الذين غسلوه علي ، والفضل بن عباس ، واختلف في العباس ، وأسامة بن زيد ، وقثم بن العباس ، وشقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : هؤلاء كلهم شهدوا غسله ، وقيل : لم يغسله غير علي ، والفضل كان يصب الماء ، وعلي يغسله ، وقيل كان الناس قد تنازعوا ذلك .

فصاح أبو بكر : يا معشر الناس كل قوم أولى بجنائزهم من غيرهم ، فانطلق الأنصار إلى العباس فكلموه فأدخل معهم أوس بن خولي ، وكان الفضل ، والعباس يقلبانه ، وأسامة بن زيد ، وقثم يصبان الماء على علي - رحمه الله - .

وروي من وجه آخر أن العباس كان بالباب لم يحضر الغسل ، يقول : لم يمنعني أن أحضره إلا أني كنت أراه - صلى الله عليه وسلم - يستحيي أن يراني أراه حاسرا صلوات الله ، وسلامه عليه ، ورضي الله عن جميع صحابته ، وأزواجه ، وسلم تسليما .




الخدمات العلمية