الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ثم قال تعالى:

                                                          ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .

                                                          عطف سبحانه وتعالى بـ (ثم) للتراخي بين اتخاذ البيوت من الجبال والأشجار ومما يعرشون، وذلك إشارة إلى أنها تبذل في البيوت نظاما محكما دقيقا مما يأخذ وقتا طويلا، والله تعالى يأمرها بمقتضى الفطرة التي فطرها تعالى: ثم كلي من كل الثمرات فلا تفرق بين الزهور فكلها طعام لها، فتأخذ من نوار كل زهرة، لا فرق بين زهر مر، وزهر حلو، وتأخذ من كل الثمرات تأخذ البنفسج والبرتقال والخوخ، والقطن ثم ينساغ في بطنها، ثم تخرجه بعد ذلك عسلا حلوا، مشتبه طعمه ويختلف لونه، ويكون لونه على حسب المرعى، فلون البنفسج يبدو إذا كان غذاؤه من البنفسج، ورائحته تكون مثله، ولون البرتقال إذا كان كذلك، وقال تعالى: فاسلكي سبل ربك ذللا وهي حال من السبل، أي أن طرائق الله التي ألهمك إياها مذللة سهلة غير مجهولة تغدو من هذه السبل، وتروح منها غير مجهولة لها، ولو ذهبت في طلب الرزق إلى آماد بعيدة.

                                                          [ ص: 4215 ] وهذا كله على أن ذللا حال من السبل، ويصح أن تكون حالا من ضمير فاسلكي فيكون حالا من النحل، والمعنى اسلكي سبل ربك حال كونك مذللة لما خلقك الله تعالى، وهو أن تأخذي الثمرات وقد تمكنت منها ومن الطريق إليها، مسخرة لما خلقك الله تعالى له سبحانه.

                                                          ويقول سبحانه: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فما بين أبيض وأصفر وبنفسجي ووردي، وذلك على حسب الغذاء الذي يتغذى به النحل، وعلى حسب سن النحلة التي تخرجه.

                                                          وقد قالوا: إن العسل تمجه لعابا، ولا يخرج من بطنها، والجواب عن ذلك أنه ينساغ في بطونها عسلا ثم تمجه لعابا، وهو يتكون أولا في البطن، ومع اختلاف ألوانه ورائحته يجتمع فيه وصف الحلاوة له.

                                                          وقال تعالى: فيه شفاء للناس والتنكير هنا للتعظيم، أي: فيه شفاء عظيم للناس، ولقد قال بعض العلماء: إن فيه شفاء عاما؛ لأن التنكير للتعظيم لأن فيه شفاء لكل الأسقام، وعن ابن عمر أنه لا يشكو قرحة إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا.

                                                          وحكي عن بعض التابعين أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى بالعسل في كل مرض.

                                                          وإن النص القرآني يدل على أن فيه شفاء عظيما، ولكن لا يدل على أنه تعالى يشفي به كل الأمراض، وحسبه أن يكون فيه شفاء عظيم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوي به أمراض البطن، روى البخاري ومسلم أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " اسقه عسلا "، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله! سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال: " اذهب فاسقه عسلا " ثم جاء فقال: يا رسول الله! ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا فبرأ .

                                                          [ ص: 4216 ] ويقول ابن كثير في التعليق على هذا الحديث:

                                                          قال بعض علماء الطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالا، فاعتقد الأعرابي أنه يضره، وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة استمسك بطنه وصلح مزاجه.

                                                          وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون أي: إن في خلق النحل وإلهامه وتدبيره وخروج العسل المصفى من بطونه لآية دالة على قدرة الله وعظيم خلقه لقوم يتفكرون ويتدبرون في آياته وما تدل عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية