الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار

                                                                                                                                                                                                "هنالك" في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، أو في ذلك الوقت - فقد يستعار هنا وثم وحيث للزمان - لما رأى حال مريم في كرامتها على الله [ ص: 555 ] ومنزلتها رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أختها حنة في النجابة والكرامة على الله، وإن كانت عاقرا عجوزا فقد كانت أختها كذلك.

                                                                                                                                                                                                وقيل: لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر "ذرية" ولدا، والذرية يقع على الواحد والجمع سميع الدعاء : مجيبه.

                                                                                                                                                                                                قرئ: (فناداه الملائكة)، وقيل: ناداه جبريل -عليه السلام- وإنما قيل: (الملائكة) على قولهم: (فلان يركب الخيل) أن الله يبشرك بالفتح على بـ(أن الله) وبالكسر على إرادة القول، أو لأن النداء نوع من القول، وقرئ: (يبشرك) و(يبشرك) من بشره وأبشره، و(يبشرك) بفتح الياء من بشره، ويحيى إن كان أعجميا - وهو الظاهر - فمنع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى ، وإن كان عربيا فللتعريف ووزن الفعل كيعمر.

                                                                                                                                                                                                مصدقا بكلمة من الله : مصدقا بعيسى مؤمنا به، قيل: هو أول من آمن به، وسمي عيسى "كلمة" لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها، وهي قوله: "كن" من غير سبب آخر، وقيل: (مصدقا بكلمة من الله): مؤمنا بكتاب منه، وسمي الكتاب كلمة كما قيل: كلمة الحويدرة لقصيدته، والسيد: الذي يسود قومه، أي: يفوقهم في الشرف، وكان يحيى فائقا لقومه وفائقا للناس كلهم في أنه لم يركب سيئة قط، ويا لها من سيادة، والحصور: الذي لا يقرب النساء حصرا لنفسه، أي: منعا لها من الشهوات، وقيل: هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر، قال الأخطل [من البسيط]:


                                                                                                                                                                                                وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسئار



                                                                                                                                                                                                فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو.

                                                                                                                                                                                                وقد روي أنه مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت من الصالحين : ناشئا من الصالحين; لأنه كان من أصلاب الأنبياء، أو كائنا من جملة الصالحين كقوله: وإنه في الآخرة لمن الصالحين [البقرة: 130].

                                                                                                                                                                                                أنى يكون لي غلام : استبعاد من حيث العادة كما قالت مريم: وقد بلغني الكبر : كقولهم: أدركته السن العالية، والمعنى: أثر في الكبر فأضعفني، وكانت له تسع وتسعون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون "كذلك" أي: يفعل الله ما يشاء من [ ص: 556 ] الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو (كذلك الله) مبتدأ وخبر، أي: على نحو هذه الصفة الله، ويفعل ما يشاء بيان له، أي: يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات "آية": علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر قال آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة، مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله، ولذلك قال: واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار يعني: في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره؛ توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة، وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال، ومنتزعا منه، "إلا رمزا": إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما وأصله التحرك، يقال ارتمز: إذا تحرك، ومنه قيل للبحر الراموز.

                                                                                                                                                                                                وقرأ يحيى بن وثاب (إلا رمزا) بضمتين، جمع رموز كرسول ورسل، وقرئ: (رمزا) بفتحتين، جمع رامز كخادم وخدم، وهو حال منه ومن الناس دفعة كقوله [من الوافر]:


                                                                                                                                                                                                متى ما تلقني فردين ترجف     روانف أليتيك وتستطارا



                                                                                                                                                                                                [ ص: 557 ] بمعنى إلا مترامزين، كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم، والعشي: من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، و"الإبكار": من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وقرئ: (والأبكار) بفتح الهمزة، جمع بكر كسحر وأسحار، يقال: أتيته بكرا بفتحتين.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: الرمز ليس من جنس الكلام، فكيف استثني منه؟ قلت: لما أدى مؤدى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاما، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية