الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني .

[ في معرفة مواضع سجود السهو ]

اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال :

1 - فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبدا قبل السلام .

2 - وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبدا بعد السلام .

3 - وفرقت المالكية فقالت : إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام ، وإن كان لزيادة كان بعد السلام .

4 - وقال أحمد بن حنبل : يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل السلام ، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد السلام ، فما كان من سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل السلام .

[ ص: 163 ] 5 - وقال أهل الظاهر : لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط ، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به ، وإن كان ندبا فليس عليه شيء .

والسبب في اختلافهم : أنه - عليه الصلاة والسلام - ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام ، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة أنه قال : " صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ثم قام فلم يجلس ، فقام الناس معه ، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس " . وثبت أيضا أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين .

فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو - أعني : الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها - عليه الصلاة والسلام - إلى أشباهها - في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب : أحدها : مذهب الترجيح . والثاني : مذهب الجمع . والثالث : الجمع بين الجمع والترجيح .

فمن رجح حديث ابن بحينة قال : السجود قبل السلام ، واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، أثلاثا أم أربعا، فليصل ركعة ، وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين ، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان " قالوا : ففيه السجود للزيادة قبل السلام لأنها ممكنة الوقوع خامسة ، واحتجوا لذلك أيضا بما روي عن ابن شهاب أنه قال : " كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السجود قبل السلام " .

وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال : السجود بعد السلام ، واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة بن شعبة : " أنه - عليه الصلاة والسلام - قام من اثنتين ولم يجلس ، ثم سجد بعد السلام " . قال أبو عمر : ليس مثله في النقل فيعارض به . واحتجوا أيضا لذلك بحديث ابن مسعود الثابت : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام " .

وأما من ذهب مذهب الجمع فإنهم قالوا : إن هذه الأحاديث لا تتناقض ، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة ، والسجود قبل السلام في النقصان ، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع ، قالوا : وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض .

وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح فقال : يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النحو الذي سجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع ، وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالحكم فيها : السجود قبل السلام . فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها - عليه الصلاة والسلام - قبل السلام ، ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام ، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها ، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه ، وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها ، ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض ، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح - أعني : أنه قاس على السجود الذي قبل السلام ، ولم يقس على الذي بعده - . وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكما خارجا عنها ، وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر [ ص: 164 ] فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط .

وأما أحمد بن حنبل ، فجاء نظره مختلطا من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس ، وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده ، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام .

ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس - أعني : لأصحاب القياس - . وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس ، كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل ، وذلك إما من حيث هي مشهورة وأصل لغيرها ، وإما من حيث هي كثيرة الوقوع .

والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أحدها : أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة .

والثاني : أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين .

والثالث : أنه صلى خمسا على ما في حديث ابن عمر ، خرجه مسلم والبخاري .

والرابع : أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين .

والخامس : السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري ، وسيأتي بعد .

واختلفوا لماذا يجب سجود السهو ؟ فقيل يجب للزيادة والنقصان ، وهو الأشهر . وقيل : للسهو نفسه ، وبه قال أهل الظاهر والشافعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية