الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذا فرائض الثانية أربعة إلا أنه يجب فيها الدعاء بدل القراءة .

التالي السابق


(وكذا فرائض) الخطبة (الثانية أربع) مثل الأولى (ألا أنه لا يجب فيها الدعاء) للمؤمنين (بدل القراءة) قال الرافعي : ثم إن هذه الأركان الثلاثة لا بد منها في كل واحدة من الخطبتين ، ولنا وجه أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحداهما كافية ، وهو شاذ ، والدعاء للمؤمنين ركن على الصحيح ، والثاني لا يجب ، وحكى عن نصه في الإملاء ، وإذا قلنا بالصحيح ، فهو مخصوص بالثانية ، فلو دعا في الأولى لم تحسب ، ويكفي ما يقع عليه الاسم .

قال إمام الحرمين : وأرى أنه يجب أن يكون متعلقا بأمور الآخرة ، وأنه لا بأس بتخصيصه بالسامعين بأن يقول : رحمكم الله . قال الرافعي : واختلفوا في محل القراءة على ثلاثة أوجه ؛ أصحها - ونص عليه في الأم - تجب في إحداهما لا بعينها ، والثاني : تجب فيهما ، والثالث : تجب في الأولى خاصة ، وهو ظاهر نصه في المختصر ، ونقل النووي ، عن الدارمي أنه يستحب أن يقرأ في الخطبة الأولى سورة ق . قال : والمراد قراءتها بكمالها لاشتمالها على أنواع المواعظ . أهـ .

قلت : وعند أصحابنا قراءة القرآن في الخطبة من جملة سننها ، وذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في خطبته واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ، وروي أنه قرأ : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، وروي أنه قرأ : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ، وروي أنه قرأ : إذا زلزلت الأرض قالوا : وإذا قرأ سورة تامة يتعوذ ، ثم يسمي قبله ، وإن قرأ آية قيل : يتعوذ ، ثم يسمي ، وقيل : يتعوذ ، ولا يسمي ، وهو الأكثر ، ثم قال الرافعي : ولا تدخل القراءة في الأركان المذكورة حتى لو قرأ آية فيها موعظة ، وقصد إيقاعها عن الجهتين لم يجز ، ولا يجوز أن يأتي بآيات تشتمل على الأركان المطلوبة ؛ لأن ذلك لا يسمى خطبة ، ولو أتى ببعضها في ضمن آية لم يمتنع ، وهل يشترط كون الخطبة كلها بالعربية ، وجهان ؛ الصحيح اشتراطه ، فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية خطب بغيرها ، ويجب عليهم التعليم ، وإلا عصوا ، ولا جمعة لهم .



(فصل)

وعن أبي حنيفة يصح الاقتصار في الخطبة على ذكر خالص لله تعالى نحو تسبيحه ، أو تهليله ، أو تكبيره مع الكراهة ، وهي التي يعتد بها ، ويجزئ هذا الذكر عن الخطبتين ، ولا يحتاج إلى تسبيحتين ، وعن مالك روايتان كالمذهبين ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : لا بد من ذكر طويل يسمى خطبة . قيل : وأقله قدر التشهد إلى قوله : عبده ورسوله حمد ، وصلاة ، ودعاء للمسلمين ، ودليل أبي حنيفة قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله ، فلم يفصل بين كونه ذكرا طويلا أو لا ، فكان الشرط الذكر الأعم بالدليل القاطع ، غير أن المأثور عنه - صلى الله عليه وسلم - اختيار أحد الفردين أعني الذكر المسمى بالخطبة ، والمواظبة عليه ، فكان ذلك واجبا ، أو سنة ؛ لأنه الشرط الذي لا يجزئ غيره إذ لا يكون بيانا ؛ لأن الدليل - وهو لفظ الذكر المأمور بالسعي إليه - ليس مجملا ليقع فعله - صلى الله عليه وسلم - بيانا للمجمل ، فلم يكن فرضا تنزيلا للمشروعات على حسب أدلتها ، ويؤيده ما رواه قاسم بن ثابت السرقسطي في غريب الحديث ، عن عثمان - رضي الله عنه - أنه صعد المنبر ، فقال : الحمد لله فارتج عليه ، فقال : إن أول كل مركب صعب ، وإن أبا بكر ، وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا ، وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله تعالى ، وأستغفر الله لي ، ولكم ، ونزل صلى بهم ، ولم ينكر عليه أحد منهم ، فكان إجماعا منهم على عدم اشتراطها ، وعلى كون الحمد لله يسمى خطبة لغة ، وإن لم يسم به عرفا . والله أعلم .



( فصل)

وقال الشيخ الأكبر - قدس سره - : اختلف الناس في الخطبة ؛ هل هي شرط في صحة الصلاة ، وركن من أركانها أم لا ؟ فذهب الأكثرون إلى أنها شرط ، وركن ، وقال قوم : إنها ليست بفرض ، وبه أقول ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما نص على وجوبها ، ولا ينبغي لنا أن نشرع وجوبها ، فإنه شرع لم يأذن به الله ، ولكن السنة لم تزل تصليها بخطبة كما فعلت في صلاة العيدين ، مع إجماعنا على أن صلاة العيدين ليست من الفروض ، ولا خطبتها ، وما جاء عيد قط إلا وصليت الصلاة ، وكانت الخطبة ، والاعتبار في ذلك أن الخطبة

[ ص: 227 ] شرعت للموعظة ، وهو داعي الحق في قلب العبد الذي يرد إلى الله ليتأهب لمناجاته ، ومشاهدته في صلاة الجمعة ، كما سن النافلة قبل صلاة الفريضة في جميع الصلوات ، وكما كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين ؛ كل ذلك ليتنبه القلب في تلك النافلة لمناجاة الحق ، ومشاهدته ، ومراقبته في أداء الفريضة التي هو مطلوب بها ، فمن رأى أن الانتباه أصل في الطريق - كالهروي ، وغيره - قالوا بوجوب الخطبة ، ومن رأى أن المقصود إنما هو الصلاة ، وأن الإقامة فيها هو عين الانتباه جعل الخطبة سنة راتبة ينبغي أن تفعل ، وإن لم ينص عليها ، ولكن ثابر عليها ، فهكذا الانتباه قبل المناجاة للمناجاة أولى من أن يكون الانتباه في عين المناجاة ، فربما تؤثر في مناجاته مرتبته المتقدمة .

قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله يحتمل أن يريد بالذكر هنا الخطبة ، فإن الله قد سمعناه يقول : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ، وإن كان يريد ولذكر الله منها أكبر من كل ما فيها جميع الأقوال ، والأفعال ، ولكن قد فصل بين الصلاة ، والذكر ، وميز ، فقد يكون المراد بذكر الله في هذه الآية الذي يسعى إليه هو الخطبة ، وقد تأوله بعض العلماء بالخطبة .

قال : ثم اختلف القائلون بوجوبها في المجزئ منها ، فمنهم من قال : أدنى ما ينطلق عليه اسم خطبة شرعية ، ومن قائل : لا بد من خطبتين ، ومن قائل : أقل ما ينطلق عليه اسم خطبة في لغة العرب ، والقائل بالخطبتين يرى أنه لا بد أن يجلس بينهما ، ويكون في كل واحدة منهما قائما يحمد الله في أولها ، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويوصي بتقوى الله ، ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ، ويدعو في الثانية ، والاعتبار في ذلك درجات المنبر الترقي في المقامات ، والخطبة الأولى بما يليق بالثناء على الله ، والتحريض على الأمور المقربة من الله بالدلائل من كتاب الله ، والخطبة الثانية بما يعطيه الدعاء ، والالتجاء من الذلة ، والافتقار ، والسؤال ، والتضرع في التوفيق ، والهداية لما ذكره ، وأمره به في الخطبة ، وقيامه في حال الخطبتين ؛ أما في الأولى فبحكم النيابة عن الحق فيما ينذر به ، ويوعد ، فهو قيام حق بدعوة صدق ، وأما القيام في الثانية ، فقيام عبد بين يدي سيد كريم يسأل منه الإعانة فيما قال الله على لسانه في الأولى من الوصايا ، وأما الجلسة بين الخطبتين ليفصل بين المقام الذي يقضيه مقام السؤال ، والرغبة في الهداية إلى الصراط المستقيم ، ولما لم يرد نص من الشارع بإيجاب الخطبة ، ولا بما يقال فيها إلا مجرد فعله لم يصح عندنا أن نقول : يخطب لغة ، أو شرعا ، إلا أننا ننظر ما فعل فنفعل مثل فعله على طريق التأسي لا على طريق الوجوب .

قال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وقال تعالى : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فنحن مأمورون باتباعه فيما سن وفرض ، فنجازى من الله تعالى فيما فرض جزاء فرضين ؛ فرض الاتباع ، وفرض الفعل الذي وقع فيه الاتباع ، ونجازى فيما سن ، ولم يفرضه ، جزاء فرض ، وسنة فرض الاتباع ، وسنة الفعل الذي لم يوجبه ، فنجازى في كل عمل بحسب ما يقتضيه ذلك العمل ، ولا بد من فرضية الاتباع ، فاعلم ذلك . والله أعلم .




الخدمات العلمية