الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 417 ] حديث خامس وخمسون من البلاغات

مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : عرفة كلها موقف ، وارتفعوا ، عن بطن عرنة ، والمزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا ، عن بطن محسر .

التالي السابق


وهذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث علي بن أبي طالب ، قال : ابن وهب : سألت سفيان بن عيينة عن عرنة ؟ فقال : موضع الممر في عرفة ، ثم ذلك الوادي كله قبلة المسجد إلى العلم الموضوع للحرم بطريق مكة ، وأما بطن محسر ، فذكر ابن وهب أيضا ، عن سفيان بن عيينة ، قال : بطن محسر حين تنحدر من الجبل الذي ، عند المشعر الحرام ، عند النخيلات ، عند المشلل .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن عمران ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا أسامة يعني ابن زيد ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : عرفة كلها موقف ، ومنى كلها منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر .

[ ص: 418 ] قال أبو عمر :

هذا هو الصحيح إن شاء الله ، ومن رواه ، عن عطاء ، عن ابن عباس فليس بشيء روي من حديث عبيد الله بن عمر ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وليس دون عبيد الله من يحتج به في ذلك .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، حدثني أبي ، عن جابر ، قال : ثم قال : النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ، ووقف بعرفة فقال : قد وقفت هاهنا ، وعرفة كلها موقف ، ووقف بالمزدلفة ، فقال : قد وقفت هاهنا ، والمزدلفة كلها موقف .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حفص ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وقفت هاهنا بعرفة ، وعرفة كلها موقف ، ووقفت هاهنا بجمع ، وجمع كلها موقف ، ونحرت هاهنا بمنى ، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم .

قال أبو عمر :

أكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة ، ولا بطن محسر من المزدلفة ، وكذلك نقلها الحفاظ الأثبات الثقات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر في الحديث الطويل في الحج ليس فيه استثناء عرنة ، ولا محسر .

وقد روى الدراوردي ، عن محمد بن أبي حميد ، عن ابن المنكدر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث مالك سواء : المزدلفة ، كلها موقف إلا بطن [ ص: 419 ] محسر ، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة .

ومحمد بن أبي حميد مدني ضعيف .

وذكره ابن وهب في موطئه قال : أخبرني محمد بن أبي حميد ، عن محمد بن المنكدر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كل عرفة موقف إلا ما جاز بطن عرنة ، وكل المزدلفة موقف إلا ما خلف بطن محسر ، قال : وقال لي مالك : الوقوف بعرفة على الدواب ، والإبل أحب إلي من أن صليت قائما ، وإن وقف قائما فلا بأس أن يستريح .

قال ابن وهب : وأخبرني يزيد بن عياض ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن عمرو بن شعيب ، وسلمة بن كهيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا الموقف ، وكل عرفة موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ، ومن أجاز بطن عرنة قال : أن تغيب الشمس فلا حج له .

قال أبو عمر :

يزيد بن عياض متروك الحديث لا يرى أهل العلم بالحديث أن يكتب حديثه ، وحديثه ( هذا ) أيضا منقطع ليس بشيء من جهة الإسناد ، وأما بطن عرنة فهو بغربي مسجد عرفة حتى لقد قال : بعض العلماء : إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط في بطن عرنة .

وقال الشافعي : وعرفة ما جاز ، وادي عرنة الذي فيه المسجد ، قال : ووادي عرنة من عرفة إلى الجبال المقابلة على عرفة ، كلها مما يلي حوائط بني عامر ، وطريق حضن ، فإذا جاوزت ذلك فليس بعرفة .

[ ص: 420 ] وأما وادي محسر ، فهو دون المزدلفة فكل من وقف بعرفة للدعاء ارتفع ، عن بطن عرنة ، وكذلك من وقف صبيحة يوم النحر للدعاء بالمشعر الحرام - وهو المزدلفة - ارتفع عن وادي محسر .

قال : الشافعي ، والمزدلفة مما يلي عرفة ، وليس المأزمان من المزدلفة إلى أن تأتي وادي محسر ، عن يمينك ، وشمالك من تلك البطون ، والشعاب والجبال كلها من مزدلفة .

واختلف الفقهاء فيمن وقف من عرفة بعرنة ، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه : يهريق دما ، وحجه تام .

وهذه رواية رواها خالد بن نزار ، عن مالك .

قال أبو إسحاق بن شعبان : عرنة موضع الممر من عرفة ، ثم ذلك الوادي من فناء المسجد إلى مكة إلى العلم الموضوع للحرم ، قال : وعرفة كل سهل ، وجبل أقبل على الموقف فيما بين التلعة إلى أن يفضوا إلى طريق نعمان ، وما أقبل من كبكب من عرفة .

وذكر أبو المصعب : أنه كمن لم يقف ، وحجه فائت ، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة .

وروي عن ابن عباس ، قال : من أفاض من عرنة فلا حج له .

وقال القاسم وسالم : من وقف بعرنة حتى دفع فلا حج له .

وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي قال : وبه أقول لأنه لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقف به .

[ ص: 421 ] قال أبو عمر :

قد ذكرنا أن الاستثناء لبطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته لا من جهة النقل ، ولا من جهة الإجماع ، والذي ذكر المزني ، عن الشافعي ، قال : ثم يركب فيروح إلى الموقف ، عند الصخرات ، ثم يستقبل القبلة بالدعاء ، قال : وحيثما وقف الناس من عرفة أجزأهم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا موقف ، وكل عرفة موقف .

قال أبو عمر :

ومن حجة من ذهب مذهب أبي المصعب : أن الوقوف بعرفة فرض مجتمع عليه في موضع معين ، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا فرض الوقوف بعرفة بالليل والنهار ، وما في ذلك ما تنازع علماء الأمصار ، ووجوه ذلك كله ، ومعانيه في باب ابن شهاب ، عن سالم ، وكذلك مضى القول في باب ابن شهاب ، عن سالم في أحكام الوقوف بالمزدلفة ، والمبيت بها ممهدا ذلك كله مبسوطا ، واضحا ، والحمد لله .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن عبد [ ص: 422 ] الله بن صفوان ، عن يزيد بن سنان ، قال : أتانا ابن مربع الأنصاري ، ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو ، عن الإمام ، فقال أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم يقول : قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم .

وروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كانت قريش ، ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر الناس يقفون بعرفة ، قالت : فلما جاء الإسلام ، أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ، ثم يفيض منها ، فذلك قوله : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) .

وأما بطن محسر ، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسرع السير في بطن محسر .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضع في وادي محسر .

ورواه أبو نعيم ، والقطان ، وابن مهدي ، ومحمد بن كثير ، عن الثوري ، قال : حدثني أبو الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

[ ص: 423 ] قال أبو عمر :

الإيضاع سرعة السير ، وذكر ابن وهب ، عن يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن زيد بن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة ، وقال : هذا الموقف ، وكل عرفة موقف ، ثم دفع فجعل يسير العنق ، ويقول السكينة حتى جاء المزدلفة فجمع بها بين الصلاتين ، ثم وقف بالمزدلفة على قزح ، قال : هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف ، ثم دفع فجعل يسير العنق ، وهو يقول : السكينة أيها الناس حتى وقف على محسر فعرج راحلته فخبت به حتى خرج عنه ، ثم سار سيره الأول حتى رمى ، ثم دخل المنحر ، فقال : هذا المنحر ، وكل منى منحر .

وفي حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر الحديث الطويل في الحج ، رواه عن جعفر بن جماعة من أئمة أهل الحديث ، وفيه : حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها .

وفيه أنه أردف الفضل بن عباس حتى أتى محسرا فحرك قليلا .

وروى هشام بن عروة ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يحرك في محسر ، ويقول :


إليك تعدو قلقا وضينها مخالفا دين النصارى دينها



( وزاد غير هشام ) :

معترضا في بطنها جنينها قد ذهب الشحم الذي يزينها






الخدمات العلمية