الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الحيض

قوله (تعالى): ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض : المحيض قد يكون اسما للحيض نفسه؛ ويجوز أن يسمى به موضع الحيض؛ كـ "المقيل"؛ و"المبيت"؛ هما موضع القيلولة؛ وموضع البيتوتة؛ ولكن في فحوى اللفظ ما يدل على أن المراد بالمحيض في هذا الموضع هو الحيض; لأن الجواب ورد بقوله: "هو أذى"؛ وذلك صفة لنفس الحيض؛ لا الموضع الذي فيه؛ وكانت مسألة القوم عن حكمه؛ وما يجب عليهم فيه؛ وذلك لأنه قد كان قوم من اليهود يجاورونهم بالمدينة؛ وكانوا يجتنبون مؤاكلة النساء ومشاربتهن؛ ومجالستهن في حال الحيض؛ فأرادوا أن يعلموا حكمه في الإسلام؛ فأجابهم الله (تعالى) بقوله هذا: "هو أذى"؛ يعني أنه نجس؛ وقذر؛ ووصفه له بذلك قد أفاد لزوم اجتنابه; لأنهم كانوا عالمين قبل ذلك بلزوم اجتناب النجاسات؛ فأطلق فيه لفظا عقلوا منه الأمر بتجنبه؛ ويدل على أن الأذى اسم يقع على النجاسات؛ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب نعل أحدكم أذى فليمسحها بالأرض؛ وليصل فيها؛ فإنه لها طهور ؛ فسمى النجاسة أذى؛ وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله: قل هو أذى ؛ الإخبار عن حاله في تأذي الإنسان به؛ لأن ذلك لا فائدة فيه؛ علمنا أنه أراد الإخبار بنجاسته؛ ولزوم اجتنابه؛ وليس كل أذى نجاسة؛ قال الله (تعالى): ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ؛ والمطر ليس بنجس؛ وقال: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ؛ وإنما كان الأذى المذكور في الآية عبارة عن النجاسة؛ ومفيدا لكونه قذرا يجب اجتنابه؛ لدلالة الخطاب عليه؛ ومقتضى سؤال السائلين عنه؛ وقد اختلف الفقهاء فيما يلزم اجتنابه من الحائض ؛ بعد اتفاقهم على أن له أن يستمتع منها بما [ ص: 21 ] فوق المئزر؛ وورد به التوقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - روته عائشة ؛ وميمونة -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يباشر نساءه وهن حيض فوق الإزار.

واتفقوا أيضا على أن عليه اجتناب الفرج منها؛ واختلفوا في الاستمتاع منها بما تحت الإزار؛ بعد أن يجتنب شعائر الدم؛ فروي عن عائشة ؛ وأم سلمة ؛ أن له أن يطأها فيما دون الفرج؛ وهو قول الثوري ؛ ومحمد بن الحسن؛ وقالا: يجتنب موضع الدم؛ وروي مثله عن الحسن؛ والشعبي ؛ وسعيد بن المسيب ؛ والضحاك ؛ وروي عن عمر بن الخطاب ؛ وابن عباس أن له منها ما فوق الإزار؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ وأبي يوسف؛ والأوزاعي ؛ ومالك ؛ والشافعي .

قال أبو بكر : قوله: فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ؛ قد انتظم الدلالة من وجهين على حظر ما تحت الإزار؛ أحدهما قوله: فاعتزلوا النساء في المحيض ؛ ظاهره يقتضي لزوم اجتنابها فيما تحت المئزر؛ وفوقه؛ فلما اتفقوا على إباحة الاستمتاع منها بما فوقه سلمناه للدلالة؛ وحكم الحظر قائم فيما دونه؛ إذ لم تقم الدلالة عليه؛ والوجه الآخر قوله: ولا تقربوهن ؛ وذلك في حكم اللفظ الأول في الدلالة على مثل ما دل عليه؛ فلا يخص منه عند الاختلاف إلا ما قامت الدلالة عليه؛ ويدل عليه أيضا من جهة السنة حديث يزيد بن أبي أنيسة؛ عن أبي إسحاق ؛ عن عمير - مولى عمر بن الخطاب أن نفرا من أهل العراق سألوا عمر عما يحل لزوج الحائض منها؛ وغير ذلك؛ فقال: سألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لك منها ما فوق الإزار؛ وليس لك منها ما تحته"؛ ويدل عليه أيضا حديث الشيباني؛ عن عبد الرحمن بن الأسود ؛ عن أبيه؛ عن عائشة قالت: "كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتزر في فور حيضها؛ ثم يباشرها؛ فأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه؟"؛ وروى الشيباني أيضا عن عبد الله بن شداد ؛ عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه مثله.

ومن أباح له ما دون المئزر احتج بحديث حماد بن سلمة ؛ عن ثابت؛ عن أنس ؛ أن اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت؛ ولا يؤاكلونها؛ ولا يجامعونها في بيت؛ فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأنزل الله (تعالى): ويسألونك عن المحيض ؛ الآية؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جامعوهن في البيوت؛ واصنعوا كل شيء إلا النكاح ؛ وبما روي عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ناوليني الخمرة"؛ فقالت: إني حائض؛ فقال: " ليست حيضتك في يدك".

قالوا: وهذا يدل على أن كل عضو منها ليس فيه الحيض حكمه حكم ما كان فيه قبل الحيض؛ في الطهارة؛ وفي جواز الاستمتاع؛ والجواب عن ذلك لمن رأى حظر ما دون مئزرها أن قوله - في حديث أنس - [ ص: 22 ] إنما فيه ذكر سبب نزول الآية؛ وما كانت اليهود تفعله؛ فأخبر عن مخالفتهم في ذلك؛ وأنه ليس علينا إخراجها من البيت؛ وترك مجالستها؛ وقوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"؛ جائز أن يكون المراد به الجماع فيما دون الفرج; لأنه ضرب من النكاح؛ والمجامعة؛ وحديث عمر الذي ذكرناه قاض عليه؛ متأخر عنه؛ والدليل على ذلك أن في حديث أنس إخبارا عن حال نزول الآية؛ وحديث عمر بعد ذلك؛ لأنه لم يخبر عن حال نزول الآية؛ وقد أخبر فيه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يحل من الحائض؛ وذلك لا محالة بعد حديث أنس ؛ من وجهين؛ أحدهما أنه لم يسأل عما يحل منها إلا وقد تقدم تحريم إتيان الحائض؛ والثاني: أنه لو كان السؤال في حال نزول الآية؛ عقيبها؛ لاكتفى بما ذكره أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح"؛ وفي ذلك دليل على أن سؤال عمر كان بعد ذلك؛ ومن جهة أخرى أنه لو تعارض حديث عمر ؛ وحديث أنس ؛ لكان حديث عمر أولى بالاستعمال؛ لما فيه من حظر الجماع فيما دون الفرج؛ وفي ظاهر حديث أنس الإباحة؛ والحظر والإباحة إذا اجتمعا فالحظر أولى؛ ومن جهة أخرى؛ وهي أن خبر عمر يعضده ظاهر القرآن؛ وهو قوله (تعالى): فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ؛ وخبر أنس يوجب تخصيصه؛ وما يوافق القرآن من الأخبار فهو أولى مما يخصه؛ ومن جهة أخرى؛ وهي أن خبر أنس مجمل؛ عام؛ ليس فيه بيان إباحة موضع بعينه؛ وخبر عمر مفسر فيه بيان الحكم في الموضعين؛ مما تحت الإزار؛ وما فوقه؛ والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية