الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 45 ] ولما كان لهذه الأمة جمع لما في الكتب والصحف كانت مبادئ أحكامها على حكم الأحكام المتقدمة فكما وجهوا وجهة أهل الكتاب ابتداء ثم لهم بالوجهة إلى الكعبة انتهاء كذلك صوموا صوم أهل الكتاب أياما معدودات أي قلائل مقدرة بعدد معلوم ابتداء ثم رقوا إلى صوم دائرة الشهر وحدة قدر انتهاء، وذلك أنه لما كان من قبلهم أهل حساب لما فيه حصول أمر الدنيا فكانت أعوامهم شمسية كان صومهم عدد أيام لا وحدة شهر، وفي إعلامه إلزام بتجديد النية لكل يوم حيث هي أيام معدودة، وفي إفهامه منع من تمادي الصوم في زمن الليل الذي هو معنى الوصال الذي يشعر صحته رفع رتبة الصوم إلى صوم الشهر الذي هو دورة القمر يقنع [ ص: 46 ] الفطر في ليلة رخصة للضعيف لا عزما على الصائم، وكان فيه من الكلفة ما في صوم أهل الكتاب من حيث لم يكن فيه أكل ولا نكاح بعد نوم، فكان فيه كلفة ما في الكتب لينال رأس هذه الأمة وأوائلها حظا من منال أوائل الأمم ثم يرقيها الله إلى حكم ما يخصها فتكون مرباة تجد طعم اليسر بعد العسر - انتهى وفيه تصرف.

                                                                                                                                                                                                                                      ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم الوصال ، قالوا: يا رسول الله! إنك تواصل! قال: "إني لست كهيئتكم" وقال: "من كان مواصلا فليواصل إلى السحر" .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : فأنبأ بتمادي الصوم إلى السحر لتنتقل وجبة الفطر التي توافق حال أهل الكتاب إلى وجبة السحر التي هي خصوص أهل الفرقان - انتهى. وفي مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بهم لما أبوا إلا الوصال أياما ما يشهد لمن أباح ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : وفي تأسيسه على العدد ملجأ يرجع إليه عند إغماء الشهر الذي هو الهلال كما سيأتي التصريح به، فصار [ ص: 47 ] لهم العدد في الصوم بمنزلة التيمم في الطهور يرجعون إليه عند ضرورة فقد إهلال الرؤية كما يرجعون إلى الصعيد عند فقد الماء.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان للمريض حاجة للدواء والغذاء بحسب تداعي جسمه رفع عنه الكتب فتسبب عما مضى قوله سبحانه وتعالى: فمن كان منكم مريضا أي مرضا يضره عاجلا أو يزيد في علته آجلا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : فبقي على حكم التحمل بيقين مما يغذو المؤمن ويسقيه من غيب بركة الله سبحانه وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني فللمؤمن غذاء في صومه من بركة ربه بحكم يقينه فيما لا يصل إليه من لم يصل إلى محله، فعلى قدر ما تستمد بواطن الناس من ظواهرهم يستمد ظاهر الموقن من باطنه حتى يقوى في أعضائه بمدد نور باطنه كما ظهر ذلك في أهل الولاية والديانة، فكان فطر المريض رخصة لموضع تداويه واغتذائه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المرض وصفا جاء بلفظ الوصف ولما كان السفر وهو إزالة الكن عن الرأس تمام دورة يوم وليلة بالمسير عنه بحيث لا يتمكن من عوده لمأواه في مدار يومه وليلته نسبة بين جسمانيين جاء [ ص: 48 ] بحرف الإضافة مفصولا فقال: أو على سفر لما يحتاج إليه المسافر من اغتذاء لوفور نهضته في عمله في سفره وأن وقت اغتذائه بحسب البقاع لا بحسب الاختيار إذ المسافر ومتاعه على قلب إلا ما وقى الله السفر قطعة من العذاب وذلك لئلا يجتمع على العبد كلفتان فيتضاعف عليه المشقة دينا ودنيا فإذا خف عنه الأمر من وجه طبيعي أخذ بالحكم من وجه آخر ديني فعدة نظمه يشعر أن المكتوب عدة من أيام أي متتابعة أو متفرقة أخر لانتظام مقاطع الكلام بعضها ببعض رؤوسا وأطرافا، ففي إفهامه أن مكتوب المريض والمسافر غير مكتوب الصحيح والمقيم، فبذلك لا يحتاج إلى تقدير: فأفطر، لأن المقصد معنى الكتب ويبقى ما دون الكتب [ ص: 49 ] على حكم تحمله، فكأنه يقال للمريض والمسافر: مكتوبك أياما أخر لا هذه الأيام، فتبقى هذه الأيام خلية عن حكم الكتب لا خلية عن تشريع الصوم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا قوما لم يتعودوا الصوم وكانت عناية الله محيطة بهم تشريفا لرسولهم صلى الله عليه وسلم قال مخيرا في أول الأمر: وعلى الذين يطيقونه أي الصوم، من الطوق وهو ما يوضع في العنق حلية، فيكون ما يستطيعه من الأفعال طوقا له في المعنى فدية طعام بالإضافة أو الفصل مسكين بالإفراد إرجاعا إلى اليوم الواحد، وبالجمع إرجاعا إلى مجموع الأيام لكل يوم طعام واحد، وهو مد وحفنتان بالكفين هما قوت الحافن غداء وعشاء كفافا لا إقتارا ولا إسرافا، في جملته توسعة أمر الصوم على من لا يستطيعه ممن هو لغلبة [ ص: 50 ] حاجة طبعه إلى الغذاء بمنزلة المريض والمسافر فهو ممراض بالنهمة كأنها حال مرض جبل عليه الطبع، فكان في النظر إليه توفية رحمة النظر إلى المريض والمسافر إلا ما بين رتبتي الصنفين من كون هذا مطيقا وذينك غير مطيق أو غير متمكن، وفي إعلامه بيان أن من لم يقدر على التماسك عن غذائه فحقه أن يغذو غيره ليقوم بذل الطعام عوضا عن التماسك عن الطعام لمناسبة ما بين المعنيين لذلك; ولم يذكر هنا مع الطعام عتق ولا صوم فمن تطوع خيرا أي فزاد في الفدية فهو خير له لأنه فعل ما يدل على حبه لربه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ساق سبحانه وتعالى الإفطار عند الإطاقة والفدية واجبها ومندوبها مساق الغيبة وترك ذكر الفطر وإن دل السياق عليه [ ص: 51 ] إشارة إلى خساسته تنفيرا عنه جعل أهل الصوم محل حضرة الخطاب إيذانا بما له من الشرف على ذلك كله ترغيبا فيه وحضا عليه فقال: وأن تصوموا أيها المطيقون خير لكم من الفدية وإن زادت،

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : ففيه إشعار بأن الصائم يناله من الخير في جسمه وصحته ورزقه حظ وافر مع عظم الأجر في الآخرة، كما أشار إليه الحديث القدسي: وكل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وذلك لأنه لما كانت الأعمال أفعالا وإنفاقا وسيرا وأحوالا مما شأن العبد أن يعمله لنفسه ولأهله في دنياه وكان من شأنه كانت له، ولما كان الصوم ليس من شأنه لم يكن له، فالصلاة مثلا أفعال وأقوال وذلك من شأن المرء والزكاة إنفاق وذلك من شأنه، والحج ضرب في الأرض وذلك من شأنه وليس من شأنه أن لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا ينتصف ممن يعتدي عليه فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، فليس جملة مقاصد الصوم من شأنه وحقيقته إذبال جسمه وإضعاف [ ص: 52 ] نفسه وإماتته، ولذلك كان الصوم كفارة للقتل خطأ لينال بالصوم من قتل نفسه بوجه ما ما جرى على يده خطأ من القتل، فكان في الصوم تنقص ذات الصائم فلذلك قال تعالى: فإنه لي حين لم يكن من جنس عمل الآدمي، قال سبحانه وتعالى: وأنا أجزي به ففي إشارته أن جزاءه من غيب الله مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كل ذلك في مضمون قوله إن كنتم تعلمون انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوابه والله سبحانه وتعالى أعلم: صمتم وتطوعتم، فإنهم إن لم يعلموا أنه خير لهم لم يفعلوا فلم يكن خيرا لهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : كان خيرا حيث لم يكن بين جمع الصوم والإطعام تعاند بل تعاضد لما يشعر به لفظ الخير - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير ومسلم وأبو داود والترمذي [ ص: 53 ] والنسائي عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت وعلى الذين يطيقونه الآية كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وفي رواية: حتى نزلت هذه الآية فمن شهد منكم الشهر فليصمه .

                                                                                                                                                                                                                                      وللبخاري عن ابن عمر عن أصحاب محمد رضي الله تعالى عنهم قالوا: أنزل شهر رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها وأن تصوموا خير لكم فأمروا بالصوم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية