الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب البئر قال ( وإذا ماتت الفأرة في البئر ينزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون بعد إخراج الفأرة فعشرون واجب وثلاثون أحوط ) وقد بينا هذا فيما مضى ، وأصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنهم يطعنون في هذا ويقولون : دلو يميز الماء النجس من الطاهر دلو كيس . وهذا طعن في السلف وقد بينا أن طهارة البئر بنزح بعض الدلاء قول السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ثم هم قالوا بالرأي ما هو أشد من هذا فقالوا في بئر فيها قلتان من الماء ماتت فيها فأرة فنزح منها دلو فإن حصلت الفأرة في الدلو فالماء الذي في الدلو نجس والذي بقي في البئر طاهر ، وإن بقيت الفأرة في البئر فالماء الذي في الدلو طاهر والذي في البئر نجس فدلوهم هذا أكيس .

قال ( فإن نزح منها عشرون دلوا قبل إخراج الفأرة لم تطهر ) ; لأن بقاء الفأرة فيها بعد النزح كابتداء الوقوع ولأن سبب نجاسة البئر حصول الفأرة الميتة فيها ولا يمكن الحكم بالطهارة مع بقاء السبب الموجب للنجاسة .

قال ( فإن أخرجت الفأرة ثم نزح منها عشرون دلوا وهو يقطر فيها لم يضرها ذلك ) لأن النزح على وجه لا يقطر شيء منه فيها متعذر وما لا يستطاع الامتناع عنه يكون عفوا لقوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

قال ( وإن صب الدلو الآخر في بئر أخرى فعليهم أن ينزحوا دلوا مثله كما لو صب في البئر الأولى ) لأن حال البئر الثانية بعد ما حصل هذا الدلو فيها كحال البئر الأولى حين كان [ ص: 91 ] هذا الدلو فيها ( وإن صب الدلو الأول منها في بئر طاهرة كان عليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا ) لأن حال البئر الثانية بعد هذا الدلو فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو فيها ولو صب دلو في بئر أخرى قبل إخراج الفأرة ينزح جميع ما في البئر الثانية كذا قاله أستاذنا رضي الله تعالى عنه ، وكان الكرخي رحمه الله تعالى يقول : لا أعرف هذه المسائل إلا تقلدا فإن ماء الدلو نجس كماء الدلو الأول والفرق بينهما بطريق المعنى غير ممكن ، وشبه هذا بالثوب إذا غسل ثلاثا فالماء الثالث في النجاسة كالماء الأول إذا أصاب ثوبا آخر نجسه ، وكان الإمام الحاكم الشهيد رحمه الله تعالى يقول في مسألة الثوب على قياس مسألة البئر : إذا أصاب الماء الأول ثوبا لا يطهر إلا بالغسل ثلاثا وإن أصابه الماء الثاني يطهر بالغسل مرتين وإن أصابه الماء الثالث يطهر بالغسل مرة والأصح الفرق بينهما فنقول : النجاسة في الثوب عينية وينجس الماء بحصول النجاسة فيه وفي هذا لا فرق بين الماء الأول والثالث ، فأما تنجيس الماء فحكمي وطهارته بالنزح بغالب الرأي فكان ماء الدلو الأخير أخف من الماء الذي في الدلو الأول ; لأن عند نزح الدلو الأول يتيقن بكون الماء النجس في البئر وهو ما جاوز الفأرة ، وعند نزح الدلو الأخير لا يتيقن بذلك فلعل ما جاوز الفأرة الماء الذي نزح فيما سبق من الدلاء فهذا معنى قول محمد رحمه الله تعالى كلما نزح الماء كان أطهر للبئر فلهذا فرقنا بين الدلو الأول إذا صب في بئر أخرى وبين الدلو الأخير .

وإن صب الدلو الثاني فيها كان عليهم أن ينزحوا منها تسعة عشر دلوا ; لأن حالها كحال البئر الأولى وإن صبوا الدلو العاشر فيها كان عليهم أن ينزحوا منها عشر دلاء هكذا ذكر في نسخ أبي سليمان رحمه الله وفي نسخ أبي حفص رحمه الله قال أحد عشر دلوا وهو الصواب فإن حال البئر الثانية بعد ما صب الدلو العاشر فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو فيها ، وتأويل ما ذكر في نسخ أبي سليمان أنه ينزح منها عشر دلاء سوى المصبوب فيها والمصبوب فيها واجب النزح بيقين وإن خرجت الفأرة فألقيت في البئر الثانية وصب فيها عشرون دلوا من البئر الأولى فعليهم إخراج الفأرة ونزح عشرين دلوا لما بينا أن حال البئر الثانية كحال البئر الأولى ، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن عليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا سوى المصبوب فيها وجعل المصبوب فيها كالفأرة في البئر الأولى والأصح هو الأول ; لأنا نتيقن أنه ليس في هذه البئر إلا نجاسة فأرة ونجاسة الفأرة يطهرها نزح [ ص: 92 ] عشرين دلوا .

قال ( وإذا خرجت الفأرة وجاءوا بدلو عظيم يسع عشرين دلوا بدلوهم فاستقوا منها دلوا واحدا أجزأهم وقد طهرت البئر ) لأن النجس ما جاوز الفأرة من الماء فلا فرق بين أن يؤخذ ذلك في دلو واحد أو في عشرين دلوا وكان الحسن بن زياد رحمه الله تعالى يقول لا يطهر بهذا النزح ; لأن عند تكرار نزح الماء ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه فيكون في حكم الجاري ، وهذا لا يحصل بنزح دلو عظيم منها ونحن نقول لما قدر الشرع الدلاء بقدر خاص عرفنا أن المعتبر قدر المنزوح وأن معنى الجريان ساقط ; لأن ذلك يحصل بدونه ويزداد بزيادته ولهذا قلنا لو نزحها عشرة أيام ونحوه يطهر لوجود القدر مع عدم الجريان ثم اللفظ المذكور في الكتاب يدل على أنه يعتبر في كل بئر دلو تلك البئر لقوله بدلوهم وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن المعتبر دلو يسع فيه صاعا من الماء ليتمكن كل أحد من النزح به من رجل أو امرأة أو صبي .

قال ( ولو توضأ رجل من هذه البئر بعد ما نحى الدلو الأخير عن رأسها جاز وضوءه ) ; لأنا حكمنا بطهارة البئر فإن صب ذلك الدلو فيها لم يفسد وضوء الرجل ; لأن تنجيس البئر حصل الآن وإن كان الدلو بعد في البئر لم يفصل عن وجه الماء لا يجوز لأحد أن يتوضأ بذلك الماء وإن فصل الدلو عن وجه الماء وهو معلق في هواء البئر فتوضأ رجل منها لم يجزه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ، وقال محمد رحمه الله تعالى أجزأه . وجه قوله أن الماء الطاهر تميز عن الماء النجس فكأنه نحي عن رأس البئر وكون الماء النجس معلقا في هواء البئر لا يكون أقوى من خمر أو بول في دلو معلق في هواء البئر فلا يحكم هناك بنجاسة البئر بهذا وإنما جعل التقاطر عفوا لأجل الضرورة كما بينا ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن الماء النجس متصل بماء البئر حكما بدليل أن التقاطر فيه يجعل عفوا ولولا الاتصال حكما لما جعل التقاطر عفوا كما في البول والخمر فصار بقاء الاتصال حكما كبقائه حقيقة ولو كان باقيا حقيقة بأن لم يفصل عن وجه الماء فلا يحكم بطهارة البئر ، وهذا لأن البئر موضع الماء فأعلاه كأسفله كالمسجد لما كان موضع الصلاة جعل كله كمكان واحد في حكم الاقتداء

التالي السابق


الخدمات العلمية