الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            21 - المباحث الزكية في المسألة الدوركية

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد ، فقد ورد علي سؤال من بلاد دوركي صورته : قال الواقف في كتاب وقفه : وقف على أولاده الذكور وأولاد أولادهم الذكور دون الإناث فإن لم يبق من أولاده الذكور أحد يكون وقفا على أولاده الإناث ، ما تقول السادة العلماء في معنى قوله : فإن لم يبق من أولاد الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث ؟ وفي معنى الضميرين المجرورين فيه أنهما لماذا يرجعان وبماذا يصح معنى كتاب الوقف ، وما تقول فيمن قال بتحريم إناث الذكور وانتقال الوقف من نسل الواقف والخروج منهم بانقطاع الأولاد الصلبية بعد ما تصرفوا فيه بإذن الحاكمين الحنفي ، والشافعي ، مدة سبع وعشرين سنة زعما منه أن معنى كتاب الوقف هكذا المفهوم من العبارة الواقعة في كتاب الوقف وهي - أي الطاحونة - وقف على أولاده الذكور أي على [ ص: 193 ] أولاد الواقف الذكور لما أن الضمير في أولاده راجع إلى الواقف وعلى أولادهم الذكور ، الضمير راجع إلى أولاد الذكور دون الإناث ، نفي عن إناث الذكور ، فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث ، فما بعد يكون وقفا على المسجد الجامع المعمور بدوركي ، فعلم من ذلك أن الواقف اختص أولا إلى ذكور الواقف ، وخرج من البين إناث الذكور خائبات بحكم عبارة : دون الإناث ، ولم يستحق الوقف إلا من هو من الإناث الصلبية للواقف ، ولو بقي أحد من تلك الإناث الصلبية يستحق إلى حين الانقراض وإلا لا يستحق له أحد غيرها ، فمن عانده يأتي بحجة شرعية لا بحجة عقلية ، هذه صورة السؤال .

            فكتبت عليه ما نصه : قول الواقف : على أولاده الذكور وأولاد أولادهم الذكور دون الإناث ، ينفي أولاد بنات الذكور لا بنات الذكور ، والحاصل أن الواقف قصر الوقف على من ينسب إليه ، فأولاد بنيه يعطون ذكورا كانوا أو إناثا إذا وجد شرط الإناث وهو فقد الذكور ، وأولاد بنات بنيه لا يعطون البتة ؛ لأنهم لا ينسبون إليه ، فبنت الابن تنسب إلى جدها كابن الابن ، وبنت البنت أو ابن البنت إنما ينسبان إلى أبيهما لا إلى جدهما أبي أمهما ، فضمير أولادهم للأولاد ، والذكور صفة لأولاد المضاف إلى الضمير لا لأولاد الأول المضاف إلى أولادهم ؛ إذ لو كان صفة له لزم محذور أشد وهو الصرف إلى الأولاد الذكور من نسل جميع أولاد الأولاد الشامل للذكور والإناث ، فيلزم الصرف إلى ابن بنت الابن ، وهو خلاف المراد المفهوم من سياق غرض الواقف حيث منع بنات نفسه مع وجود الذكور ، فلا يمكن إعطاء من أدلى ببنت ابن مع وجودهم ووجود بنات نفسه ، فعلم أن مقصوده إعطاء من ينسب إليه من بنيه وبناته وأولاد بنيه ذكورا وإناثا ، وأولاد بني بنيه دون أولاد بنات بنيه ، وعلم شرط فقد الذكور في إعطاء الإناث من صلبه بالنص منه ومن بنات أولاده إما بالقياس عليهن وإما بعموم نصه ، فإن قوله : "أولاده" ، في الموضعين - وهما : فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث - قد يقال لشموله لهم لفظا ؛ لكون الجملة جاءت عقب النوعين ، وإن كان الراجح عندنا أن أولاد الأولاد لا يدخلون في الوقف على الأولاد ، فهذا مدرك خاص بهذه الواقعة ، هذه صورة الجواب .

            وقد أورد عليه أنه على هذا التقرير يلزم خلو نص الواقف عن استحقاق أولاد أولاده ، فإنه لم يذكر أولا أولاده وأولاد أولادهم ، ولم يذكر أولادهم ، وأقول : هذا الأمر [ ص: 194 ] مما زادنا يقينا فيما أفتينا به من استحقاق بنات أولاده بشرط فقد الذكور ، ومن أن الذكور صفة لأولادهم لا لأولاد المضاف هو إليه ، ومن أن قوله : " أولاده " في الموضعين شامل بعموم لفظه للحقيقة والمجاز ، أعني أولاد صلبه وأولاد أولاده ، فإن قلت : بين لي ذلك حتى أفهمه ؟ قلت : الذي يحمل عليه عبارة الواقف أن قوله ، وقف على أولاده الذكور ، ليس قاصرا على أولاد صلبه بل عاما في جميع نسله الذكور الطبقة الأولى والثانية والثالثة ، وهكذا إلى آخر نسله ، فإن قلت : كيف تقول ذلك وكيف يسوغ لك هذا الحمل وهذا عندك في المنهاج ولا يدخل أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد في الأصح ، فهذا إفتاء بالقول المرجوح . قلت : كلا ، غير أنك قاصر عن إدراك المدارك ، والمدرك في هذا الحمل أمور : الأول أن شراح المنهاج قالوا : إن محل الخلاف فيما إذا لم يرد الواقف جميعهم ، فإن أراد ذلك دخل أولاد الأولاد قطعا : ذكره ابن خيران في اللطيف ، وإرادة الواقف تعرف بالقرائن وقد قامت هنا وهي ما يذكر بعد هذا .

            الأمر الثاني أن قوله : وأولاد أولادهم الذكور ، قرينة ظاهرة في أنه أراد بالأولاد جميع نسله لا أولاد صلبه فقط ، ونص على هذا الفرع بخصوصه وهو الطبقة الثالثة ليبين شرطها الخاص بها ، وهو أن يكون ممن ينسب إلى الواقف بأن يكون من ذرية أولاد أولاده الذكور لا من ذرية أولادهم الإناث ، ولو كان المراد بالأولاد الصلبية فقط لزم أن يعطى الأولاد وأولاد أولادهم دون أولادهم ، وهو خلاف الظاهر .

            الثالث : أنه ليس المراد أيضا بأولاد أولادهم طبقة مخصوصة بل هو عام في كل طبقة من النسل ، وإن بعدت ، لا يعطى من طبقات النسل إلا من يدلي إلى الواقف بمحض الذكور ولا يعطى من أدلى بإناث ، فكما أن هذا عام في أولاد أولادهم لصلبهم ومن سفل ، فكذلك قوله ، على أولاده ، عام فيمن هم لصلبه ومن سفل .

            الرابع : لو أخذنا بالخصوص وقلنا : الأولاد خاص بالصلبية دون أولاد الأولاد لكان الثاني أيضا كذلك وهو قوله ، وأولاد أولادهم ، فلم يكن يعطى من أولاد أولادهم إلا طبقة واحدة وهم أولادهم لصلبهم ، وكان يحرم جميع الطبقات بعدهم وينقرض أهل الوقف بانقراض الطبقة الثالثة ولا سبيل إلى ذلك .

            الخامس : أن الألفاظ يراعى فيها عرف أربابها ، والواقف لهذا الوقف والحاكم به والموثق كلهم حنفية ، ومذهب الحنفية أن الوقف على الأولاد يدخل فيه أولاد البنين .

            قال في المحيط : لو وقف على ولده يدخل فيه أولاده لصلبه وأولاد أبنائه ، وفي أولاد البنات روايتان عن محمد أنهم يدخلون فيه ؛ لأن اسم الولد يتناولهم ؛ لأن الولد اسم [ ص: 195 ] المتولد متفرع من الأصل ، وأولاد البنات متفرعة متولدة من الأم وأمهم متولدة من الجد ، فكانت بواسطة الأم مضافة إلى الجدة ، وقال في موضع آخر : لو قال : أرضي هذه صدقة موقوفة على أولادي ، دخل فيه البطون كلها ؛ لعموم اسم الأولاد ، وقال في موضع آخر : لو قال : هذه صدقة على ولدي وولد ولدي وأولادهم ، دخل فيه البطون كلها ، وإن كثروا الأقرب والأبعد فيه سواء ؛ لأنه لما قال : أولادهم ، فقد ذكرهم مضافا إلى أولاده لا إلى نفس الواقف ، فقد ذكر أولادهم على العموم ، فيقع ذلك على البطون كلها . انتهى .

            فعلم أن الواقف ومن وثق عنه اقتصر على لفظ الأولاد في الوقف لاعتقاده أنه شامل لجميع نسله بناء على مذهبه ، وزاد هذا المراد إيضاحا تنصيصه على شرط يختص ببعض الفروع النازلة ، فعلم أن مراده بقوله : على أولاده الذكور ، جميع نسله من صلبه ومن سفل ، فكذلك قوله : يكون وقفا على أولاده الإناث ، يكون مرادا به جميع الإناث من نسله ، من كانت لصلبه وبنات بنيه ، وخرج بنات بناته وبنات بنات بنيه ، بالشرط الذي شرطه ، ويرشح أن الواقف والموثق مشيا في لفظ أولاده على الشمول ، بناء على مذهبهما أن عبارة الواقف وجيزة جدا ليس فيها إلا هذا القدر المذكور في السؤال من غير بسط ولا إطناب كما يفعله موثقو بلادنا .

            الأمر السادس : أن الذي زعم إخراج بنات البنين من البنين متمسكا بما تمسك به ، أخطأ خطأ ثانيا بعد خطئه أولا حيث رام إخراجهم من لفظ الأولاد مع دخولهم فيه في مذهبه ، وذلك أنه إذا نظر إلى قول الواقف : فإن لم يبق من أولاده الذكور يكون وقفا على أولاده الإناث ، فإن أخذ لفظ أولاده في الشقين على العموم في أولاد الصلب وأولاد البنين فهو المدعي ، ويلزمه أن يعطي بنات البنين ، وإن أخذه على الخصوص فيهما بأولاد الصلب قلنا له : يا غافل يلزمك أن لا تعطي من أولاد الأولاد أحدا ، فإنه رتب على فقد أولاده الذكور إعطاء أولاده الإناث ، وقد جعلت الأولاد فيهما خاصا بالصلبية ، فلزم أن تعطي بنات الصلب عند فقد ذكور الصلب وتصرفه إلى الجامع عند فقد إناث الصلب ، ويذهب أولاد الأولاد الذكور خائبين ، فيبقى قول الواقف : وأولاد أولادهم الذكور ، لاغيا لا يعمل به ، وهو باطل ، وإن أخذه على العموم في الشق الأول دون الثاني فهو تحكم بحت ، فتعين أن يكون معنى قوله : فإن لم يبق من أولاده الذكور ، أي : من فروعه ، صلبية ومن سفل ، يكون وقفا على أولاده الإناث ، أي : فروعه صلبية ومن سفل . هذا ما سنح في هذه المسألة ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية