الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 516 ] فصل

ثم قال ابن سينا في تقرير نفي الإرادة والحكمة المقصودة: «تنبيه: أتعرف ما الجود؟ الجود هو إفادة ما ينبغي لا لغرض، فلعل من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد، ولعل من يهب ليستعيض معامل، وليس بجواد، وليس العوض كله عينا، بل وغيره، حتى الثناء والمدح والتخلص من المذمة، والتوصل إلى أن يكون على الأحسن، أو على ما ينبغي، فمن جاد ليشرف أو ليحمد أو ليحسن به ما يفعل، فهو مستعيض غير جواد. فالجواد الحق هو الذي تفيض منه الفوائد لا لشوق منه، وطلب قصدي لشيء يعود إليه. واعلم أن الذي يفعل شيئا، لو لم يفعله لقبح به أو لم يحسن منه، فهو بما يفيده من فعله متخلص».

وقال أبو عبد الله الرازي في تفسير ذلك: «الغرض منه بيان [ ص: 517 ] ماهية الجود، وحده: أنه إفادة ما ينبغي لا لغرض. وهذا فيه قيود ثلاثة:

أحدها: الإفادة؛ فإن من لا يفيد شيئا لا يكون جوادا.

وثانيها: أن يكون المفاد مما ينبغي إفادته، فإن من يهب السكين لمن لا ينبغي له ليس بجواد».

قال «واعلم أن لفظة «ينبغي» لفظة مجملة؛ فإنه يراد بها تارة الحسن العقلي كما يقال: العلم مما ينبغي والجهل مما لا ينبغي؛ لكن الحكماء لا يقولون بالحسن والقبح العقليين. وقد يراد بها الإذن الشرعي، كما يقال: النكاح مما ينبغي والسفاح مما لا ينبغي. أي النكاح مأذون فيه شرعا، والسفاح ممنوع منه شرعا. وهذا التفسير أيضا لا يليق بالحكماء، وليس لهذه اللفظة معنى مخلص سوى هذين [ ص: 518 ] المعنيين. فظهر الإجمال من هذه اللفظة.

وثالثها: أن لا تكون الإفادة لعوض؛ فإن من يهب ليستعيض معامل، سواء كان العوض عينا أو ثناء أو مدحا أو تخلصا عن الذم، أو أن يكون فاعلا للأليق والأحسن، ثم إنه لما مهد هذه القاعدة قال: فالجواد الحق» إلى آخره. ومعناه ظاهر.

قال: «ولقائل أن يقول: القصد إلى إيصال الفائدة إلى الغير لو لم يكن معتبرا في الجود لوجب أن يقال: الحجارة إذا سقطت من السقف ووقعت على رأس عدو إنسان، ومات ذلك العدو، أن تكون تلك الحجارة جوادا مطلقا، لأنه حصل منها ما ينفي الغرض، فإن التزم كون الحجر جوادا [ ص: 519 ] مطلقا، وقال هذا هو الحق وإن كان شنيعا في المشهور. فنقول له: الذي عولت عليه أيضا ليس حجة برهانية؛ بل كلاما إقناعيا خطابيا؛ فإن غاية كلامك أن كل ما غرضه في الإفادة أن يكون فاعلا للأولى، كان غرضه من الإفادة تخليص نفسه من الذم فهذا ضعيف، لأنه يقال إن عنيت بقولك: إنه يخلص نفسه من الذم؛ لأن غرضه من فعله أن لا يصير مستحقا للذم، مع علمه أنه لو لم يفعله لا يستحق الذم، فلم قلت: إن ذلك محال؟! وهل هذا إلا إلزام للشيء على نفسه؟! وإن عنيت به معنى آخر فبينه لنتكلم عليه. فصح أن الحجة التي ذكروها لا تصير على السبك والنظر الحق، لكنها [ ص: 520 ] حجة إقناعية، وإذا كان كذلك كانت الحجة التي ذكرناها تصلح معارضة لها».

التالي السابق


الخدمات العلمية