الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 498 ] فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين

                                                                                                                                                                                                سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : أي الأجلين قضى موسى ؟ فقال : "أبعدهما وأبطأهما " ، وروي أنه قال : "قضى أوفاهما ، وتزوج صغراهما " . وهذا خلاف الرواية التي سبقت . الجذوة -باللغات الثلاث . وقرئ بهن جميعا - : العود الغليظ ، كانت في رأسه نار أو لم تكن ؛ قال كثير [من البسيط ] :


                                                                                                                                                                                                باتت حواطب ليلى يلتمسن لها . . . جزل الجذى غير خوار ولا دعر



                                                                                                                                                                                                [ ص: 499 ] وقال [من الطويل ] :


                                                                                                                                                                                                وألقى على قبس من النار جذوة . . .     شديدا عليه حرها والتهابها



                                                                                                                                                                                                " من" الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي : أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة . و من الشجرة بدل من قوله : من شاطئ الوادي ، بدل الاشتمال ؛ لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، كقوله تعالى : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم [الزخرف : 33 ] وقرئ : "البقعة" بالضم والفتح . و "الرهب" بفتحتين ، وضمتين ، وفتح وسكون ، وضم وسكون : وهو الخوف . فإن قلت : ما معنى قوله : واضمم إليك جناحك من الرهب ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : أن موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية : فزع واضطرب ، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء . [ ص: 500 ] فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية ، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى . والمراد بالجناح : اليد ؛ لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر . وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه . والثاني : أن يراد بضم جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه . وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما . وإلا فجناحاه مضمومتان إليه مشمران . ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن كاتبا له كان يكتب بين يديه ، فانفلتت منه فلتة ريح ، فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض ، فقال له عمر : خذ قلمك ، واضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك ، فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي . ومعنى قوله : من الرهب من أجل الرهب ، أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك : جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى : واضمم إليك جناحك . وقوله : اسلك يدك في جيبك على أحد التفسيرين : واحد . ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني : إخفاء الرهب . فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه ، وذلك قوله : واضمم إليك جناحك وقوله : واضمم يدك إلى جناحك [طه : 22 ] فما التوفيق بينهما ؟ قلت : المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه : اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما : جناح . ومن بدع التفاسير : أن الرهب : الكم ، بلغة حمير وأنهم يقولون : أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة ؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضى عربيتهم ؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية ؟ وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل ؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمي لها "فذانك" قرئ مخففا ومشددا ، فالمخفف مثنى ذاك . والمشدد مثنى ذلك ، "برهانان" حجتان بينتان نيرتان . فإن قلت : لم سميت الحجة برهانا ؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء . برهرهة ، بتكرير العين واللام معا . والدليل على زيادة النون قولهم : أبره الرجل ، إذا جاء [ ص: 501 ] بالبرهان . ونظيره تسميتهم إياها سلطان من السليط وهو الزيت ، لإنارتها .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية