الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 315 ] واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منهما منقلبا .

عطف على جملة وقل الحق من ربكم الآيات ، فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا ضرب مثلا لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن ، وإهانته للكافر ، فكان لذلك المثل شبه بمثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين من عصر أهل الكهف ، فضرب مثلا للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمثل رجلين كان حال أحدهما معجبا مؤنقا ، وحال الآخر بخلاف ذلك ، فكانت عاقبة صاحب الحال المؤنقة تبابا وخسارة ، وكانت عاقبة الآخر نجاحا ، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء ، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضا للصلاح والنجاح .

واللام في قوله لهم يجوز أن يتعلق بفعل واضرب كقوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم ، ويجوز أن يتعلق بقوله مثلا تعلق الحال [ ص: 316 ] بصاحبها ، أي شبها لهم ، أي للفريقين كما في قوله تعالى فلا تضربوا لله الأمثال ، والوجه أن يكون متنازعا فيه بين ( ضرب ، ومثلا ) .

والضمير في قوله لهم يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ، ولم يتقدم لهم ذكر ، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني .

ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالا معروفا فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس ، فقال الكلبي : المعني بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو ( الأسود بن عبد الأشد ) - بشين معجمة ، وقيل : بسين مهملة - ابن عبد ياليل ، والآخر مسلم وهو أخوه : ( أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل ) ، ووقع في الإصابة : ابن هلال ، وكان زوج أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان ، ولعلهما كانتا بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة .

وعن ابن عباس : هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالا ; فاشترى أحدهما أرضا وجعل فيها جنتين ، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه الله تعالى في هذه السورة ، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات في قوله فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين الآيات فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف .

وإن كان حال الرجلين حالا مفروضا كما جوزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية ، فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس ; لأن تلك الحالة متصورة متخيلة ، قال ابن عطية : فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس ، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي [ ص: 317 ] في قوله تعالى ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة الآيات .

والأظهر من سياق الكلام ، وصنع التراكيب ؛ مثل قوله قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب إلخ فقد جاء ( قال ) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة ، ومثل قوله ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا أن يكون هذا المثل قصة معلومة ، ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة ؛ مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية .

ومعنى جعلنا لأحدهما قدرنا له أسباب ذلك .

وذكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب في سورة البقرة .

ومعنى حففناهما أحطناهما ، يقال : حفه بكذا ، إذا جعله حافا به ، أي محيطا ، قال تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش ; لأن ( حف ) يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثان عدي إليه بالباء ، مثل : غشيه وغشاه بكذا ، ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة .

ومعنى وجعلنا بينهما زرعا ألهمناه أن يجعل بينهما ، وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلا بين الجنتين : كانت الجنتان تكتنفان حقل الزرع ، فكان المجموع ضيعة واحدة ، وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد .

و كلتا اسم دال على الإحاطة بالمثنى يفسره المضاف هو إليه ، فهو اسم مفرد دال على شيئين ، نظير زوج ، ومذكره ( كلا ) ، قال سيبويه : أصل كلا : كلو ، وأصل كلتا : كلوا ; فحذفت لام الفعل من كلتا ، وعوضت التاء عن اللام المحذوفة ; لتدل التاء على التأنيث ، ويجوز في خبر كلا وكلتا الإفراد اعتبارا للفظه ، وهو أفصح كما في هذه الآية ، ويجوز تثنيته اعتبارا لمعناه كما في قول الفرزدق :

[ ص: 318 ]

كلاهما حين جد الجري بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما

رابي و أكلها قرأه الجمهور بضم الهمزة وسكون الكاف ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم الهمزة وضم الكاف وهو الثمر ، وتقدم .

وجملة كلتا الجنتين آتت أكلها معترضة بين الجمل المتعاطفة ، والمعنى : أثمرت الجنتان إثمارا كثيرا حتى أشبهت المعطي من عنده .

ومعنى ولم تظلم منه شيئا لم تنقص منه ، أي من أكلها شيئا ، أي لم تنقصه عن مقدار ما تعطيه الأشجار في حال الخصب ، ففي الكلام إيجاز بحذف مضاف ، والتقدير : ولم تظلم من مقدار أمثاله ، واستعير الظلم للنقص على طريقة التمثيلية بتشبيه هيئة صاحب الجنتين في إتقان خبرهما وترقب إثمارهما بهيئة من صار له حق في وفرة غلتها ، بحيث إذا لم تأت الجنتان بما هو مترقب منهما أشبهتا من حرم ذا حق حقه فظلمه ، فاستعير الظلم لإقلال الإغلال ، واستعير نفيه للوفاء بحق الإثمار .

والتفجير تقدم عند قوله تعالى حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا في سورة الإسراء .

والنهر بتحريك الهاء لغة في النهر بسكونها ، وتقدم عند قوله تعالى قال إن الله مبتليكم بنهر في سورة البقرة .

وجملة ( وكان له ثمر ) في موضع الحال من لأحدهما ، والثمر بضم الثاء والميم : المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع ، وهو مأخوذ من ثمر ماله ؛ بتشديد الميم بالبناء للنائب ، يقال : ثمر الله ماله إذا كثر ، قال النابغة :


فلما رأى أن ثمر الله ماله     وأثل موجودا وسد مفاقره

[ ص: 319 ] مشتقا من اسم الثمرة على سبيل المجاز أو الاستعارة ; لأن الأرباح ، وعفو المال يشبهان ثمر الشجر ، وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة ، قال النابغة :


مهلا فداء لك الأقوام كلهم     وما أثمر من مال ومن ولد

وقرأ الجمهور ( ثمر ) بضم المثلثة وضم الميم ، وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب بضم المثلثة وسكون الميم ، وقرأه عاصم بفتح المثلثة وفتح الميم .

فقالوا : إنه جمع ثمار الذي هو جمع ثمر ، مثل كتب جمع كتاب فيكون دالا على أنواع كثيرة مما تنتجه المكاسب ، كما تقدم آنفا في جمع أساور من قوله أساور من ذهب ، وعن النحاس بسنده إلى ثعلب عن الأعمش : أن الحجاج قال : لو سمعت أحدا يقرأ ( وكان له ثمر ) أي بضم الثاء لقطعت لسانه ، قال ثعلب : فقلت للأعمش : أنأخذ بذلك ، قال : لا ، ولا نعمة عين ، وكان يقرأ : ثمر ، أي بضمتين .

والمعنى : وكان لصاحب الجنتين مال ، أي غير الجنتين ، والفاء لتفريع جملة قال على الجمل السابقة ; لأن ما تضمنته الجمل السابقة من شأنه أن ينشأ عنه غرور بالنفس ينطق ربه عن مثل ذلك القول .

والصاحب هنا بمعنى المقارن في الذكر حيث انتظمهما خبر المثل ، أو أريد به الملابس المخاصم ، كما في قول الحجاج يخاطب الخوارج : ألستم أصحابي بالأهواز .

والمراد بالصاحب هنا الرجل الآخر من الرجلين ، أي فقال من ليس له جنات ؛ في حوار بينهما ، ولم يتعلق الغرض بذكر مكان هذا القول ، ولا سببه ; لعدم الاحتياج إليه في الموعظة .

وجملة وهو يحاوره حال من ضمير قال ، والمحاورة : مراجعة الكلام بين متكلمين .

[ ص: 320 ] وضمير الغيبة المنفصل عائد على ذي الجنتين ، والضمير المنصوب في يحاوره عائد على صاحب ذي الجنتين ، ورب الجنتين يحاور صاحبه ، ودل فعل المحاورة على أن صاحبه قد وعظه في الإيمان والعمل الصالح ، فراجعه الكلام بالفخر عليه والتطاول شأن أهل الغطرسة والنقائض أن يعدلوا عن المجادلة بالتي هي أحسن إلى إظهار العظمة والكبرياء .

و أعز أشد عزة ، والعزة : ضد الذل ، وهي كثرة عدد عشيرة الرجل وشجاعته .

والنفر : عشيرة الرجل الذين ينفرون معه ، وأراد بهم هنا ولده ، كما دل عليه مقابلته في جواب صاحبه بقوله إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا ، وانتصب نفرا على تمييز نسبة أعز إلى ضمير المتكلم .

وجملة ودخل جنته في موضع الحال من ضمير قال ، أي قال ذلك وقد دخل جنته مرافقا لصاحبه ، أي دخل جنته بصاحبه ، كما يدل عليه قوله قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ; لأن القول لا يكون إلا خطابا لآخر ، أي قال له ، ويدل عليه أيضا قوله قال له صاحبه وهو يحاوره ، ووقوع جواب قوله أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا في خلال الحوار الجاري بينهما في تلك الجنة .

ومعنى وهو ظالم لنفسه وهو مشرك مكذب بالبعث بطر بنعمة الله عليه .

وإنما أفرد الجنة هنا ، وهما جنتان ; لأن الدخول إنما يكون لإحداها ; لأنه أول ما يدخل إنما يدخل إحداهما قبل أن ينتقل منها إلى الأخرى ، فما دخل إلا إحدى الجنتين .

والظن بمعنى : الاعتقاد ، وإذا انتفى الظن بذلك ثبت الظن بضده ، وتبيد : تهلك ، وتفنى .

والإشارة بهذا إلى الجنة التي هما فيها ، أي لا أعتقد أنها تنتفض وتضمحل .

[ ص: 321 ] والأبد : مراد منه طول المدة ، أي هي باقية بقاء أمثالها لا يعتريها ما يبيدها ، وهذا اغترار منه بغناه ، واغترار بما لتلك الجنة من وثوق الشجر ، وقوته وثبوته ، واجتماع أسباب نمائه ودوامه حوله ، من مياه وظلال .

وانتقل من الإخبار عن اعتقاده دوام تلك الجنة إلى الإخبار عن اعتقاده بنفي قيام الساعة .

ولا تلازم بين المعتقدين ، ولكنه أراد التورك على صاحبه المؤمن تخطئة إياه ، ولذلك عقب ذلك بقوله ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا تهكما بصاحبه ، وقرينة التهكم قوله وما أظن الساعة قائمة ، وهذا كقول العاصي بن وائل السهمي لخباب بن الأرت ليكونن لي مال هنالك فأقضيك دينك منه .

وأكد كلامه بلام القسم ، ونون التوكيد ; مبالغة في التهكم .

وانتصب منقلبا على تمييز نسبة الخبر ، والمنقلب : المكان الذي ينقلب إليه ؛ أي يرجع .

وضمير " منهما " للجنتين عودا إلى أول الكلام ; تفننا في حكاية كلامه على قراءة الجمهور " منهما " بالتثنية ، وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف منها بالإفراد جريا على قوله ودخل جنته وقوله أن تبيد هذه .

التالي السابق


الخدمات العلمية