الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب من وقف أو تصدق على أقربائه أو وصى لهم من يدخل فيه 2510 - ( عن أنس { أن أبا طلحة قال : يا رسول الله إن الله يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال : بخ بخ ، ذلك مال رابح مرتين وقد سمعت ، أرى أن تجعلها في الأقربين ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه } متفق عليه وفي رواية : { لما نزلت هذه الآية { لن تنالوا البر } قال أبو طلحة : يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك أني جعلت أرضي بيرحاء لله ، فقال : اجعلها في قرابتك ، قال فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب } رواه أحمد ومسلم وللبخاري معناه وقال فيه : { اجعلها لفقراء قرابتك } قال محمد بن عبد الله الأنصاري : أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار ، وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام ، يجتمعان إلى حرام وهو الأب الثالث ، وأبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار ، فعمرو يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا ، وبين أبي وأبي طلحة ستة آباء ) .

                                                                                                                                            [ ص: 34 ] وعن أبي هريرة قال : { لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص ، فقال : يا بني كعب بن لؤي : أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ; يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها } متفق عليه ، ولفظه لمسلم )

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله ( : بيرحاء ) بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء وبالمهملة والمد ، وجاء في ضبطه أوجه كثيرة جمعها ابن الأثير في النهاية فقال : ويروى بفتح الباء وكسرها وبفتح الراء وضمها وبالمد والقصر ، فهذه ثمان لغات وفي رواية حماد بن سلمة " بريحا " بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية وهي عند مسلم ، ورجح هذه صاحب الفائق وقال : هي وزن فعيلة من البراح : وهي الأرض الظاهرة المنكشفة

                                                                                                                                            وعند أبي داود " باريحا " وهي بإشباع الموحدة والباقي مثله ، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة ، فإن أريحا من الأرض المقدسة قال الباجي : أفصحها بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الراء مقصورا ، وكذا جزم به الصغاني وقال الباجي أيضا : أدركت أهل العلم ومنهم أبو ذر يفتحون الراء في كل حال قال الصوري : وكذا الباء الموحدة

                                                                                                                                            قوله : ( بخ بخ ) كلاهما بفتح الموحدة وسكون المعجمة ، وقد ينون مع التثقيل أو التخفيف بالكسر وبالرفع لغات قال في الفتح : وإذا كررت فالاختيار أن تنون الأولى وتسكن الثانية وقد يسكنان جميعا كما قال الشاعر :

                                                                                                                                            بخ بخ لوالده وللمولود

                                                                                                                                            ومعناهما تفخيم الأمر والإعجاب به قوله : ( رابح ) شك القعنبي هل هو بالتحتانية أو بالموحدة ورواه البخاري عنه بالشك قوله : ( في الأقربين ) اختلف العلماء في الأقارب ، فقال أبو حنيفة

                                                                                                                                            القرابة : كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم وقال أبو يوسف ومحمد من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أم من غير تفصيل ، زاد زفر : ويقدم من قرب وهو رواية عن أبي حنيفة ، وأقل من يدفع له ثلاثة . وعند محمد اثنان . وعند أبي يوسف واحد ، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا إن شرط ذلك .

                                                                                                                                            وقالت الشافعية : القريب من اجتمع في النسب سواء قرب أم بعد ، مسلما كان أو كافرا ، غنيا أو فقيرا ، ذكرا أو أنثى ، وارثا أو غير وارث ، [ ص: 35 ] محرما أو غير محرم واختلفوا في الأصول والفروع على وجهين وقالوا : إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا وقيل : يقتصر على ثلاثة ، وإن كانوا غير محصورين فنقل الطحاوي الاتفاق على البطلان قال الحافظ : وفيه نظر ، لأن عند الشافعية وجها بالجواز ويصرف منهم لثلاثة ولا يجب التسوية وقال أحمد في القرابة كالشافعي إلا أنه أخرج الكافر وفي رواية عنه : القرابة كل من جمعه والموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه وقال مالك : يختص بالعصبة سواء كان يرثه أو لا ، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا ثم يعطي الأغنياء ، هكذا في الفتح .

                                                                                                                                            وحكي في البحر عن مالك أن ذلك يختص بالوارث وعند الهادوية أن القرابة والأقارب لمن ولده جدا أبوي الواقف واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سهم ذوي القربى لبني هاشم وهاشم جد أبيه عبد الله ، وهذا ظاهر في جد الأب ، وأما جد الأم فلا ، بل هو يدل على خلاف المدعى من هذه الحيثية ، إذ لم يصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى من ينسب إلى جد أمه وأجاب صاحب شرح الأثمار أن خروج من ينتسب إلى جد الأم هنا مخصص من عموم الآية ، والعموم يصح تخصيصه فلا يلزم إذا خص ههنا أن يخرجوا حيث لم يخص وقد استدل أيضا على خروج من ينتسب إلى جد الأم بأنهم ليسوا بقرابة ، لأن القرابة : العشيرة والعصبة ، وليس من كان من قبل الأم بعصبة ولا عشيرة وإن كانوا أرحاما وأصهارا ، ولهذا قال في البحر : وقرابتي وأقاربي أو ذوو أرحامي لمن ولده جد أبيه ما تناسلوا لصرفه صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى في الهاشميين والمطلبيين ، وعلل إعطاء المطلبيين بعدم الفرقة لا القرب ، وهو الظاهر كما وقع منه صلى الله عليه وسلم التصريح بذلك لما سأله بعض بني عبد شمس عن تخصيص المطلبيين بالعطاء دونهم ، فقال : إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ، ولو كان الصرف إليهم للقرابة فقط لكان حكمهم وحكم بني عبد شمس واحدا لأنهم متحدون في القرب إليه صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            قوله : ( أفعل ) بضم اللام على أنه قول أبي طلحة

                                                                                                                                            قوله : ( فقسمها أبو طلحة ) فيه تعيين أحد الاحتمالين في لفظ أفعل ، فإنه احتمل أن يكون فاعله أبو طلحة كما تقدم ، واحتمل أن يكون صيغة أمر ، وانتفى هذا الاحتمال الثاني بهذه الرواية " وذكر ابن عبد البر أن إسماعيل القاضي رواه عن القعنبي عن مالك فقال في روايته ، { فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقاربه وبني عمه } أي في أقارب أبي طلحة وبني عمه قال ابن عبد البر : إضافة القسم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان شائعا في لسان العرب على معنى أنه الآمر به ، لكن أكثر الرواة لم يقولوا ذلك ، والصواب رواية من قال : " فقسمها أبو طلحة "

                                                                                                                                            قوله : ( في أقاربه وبني عمه ) في الرواية الثانية " فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب " وقد تمسك به من قال : أقل من يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين : اثنان ، وفيه نظر ، [ ص: 36 ] لأنه وقع في رواية للبخاري " فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه وكان منهم حسان وأبي بن كعب " فدل ذلك على أنه أعطى غيرهما معهما وفي مرسل أبي بكر بن حزم " فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه أو ابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر فتقاوموه ، فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم "

                                                                                                                                            قوله : ( ابن حرام ) بالمهملتين قوله : ( ابن زيد مناة ) هو بالإضافة قوله : ( وبين أبي وأبي طلحة ستة آباء ) قال في الفتح : هو ملبس مشكل ، وشرع الدمياطي في بيانه ، ويغني عن ذلك ما وقع في رواية المستملي حيث قال عقب ذلك : وأبي بن كعب هو ابن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار ، فعمرو بن مالك يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا ا هـ وفي قصة أبي طلحة هذه فوائد : منها : أن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه واستدل به الجمهور على أن من أوصى أن يفرق ثلث ماله حيث أرى الله الوصي إنها تصح وصيته ويفرقه الوصي في سبيل الخير ولا يأكل منه شيئا ولا يعطي منه وارثا للميت ، وخالف في ذلك أبو ثور

                                                                                                                                            وفيه جواز التصدق من الحي في غير مرض الموت بأكثر من ثلث ماله ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به وقال لسعد بن أبي وقاص في مرضه : " الثلث كثير " وفيه تقديم الأقرب من الأقارب على غيرهم وفيه جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم ولا نقص عليه في ذلك ، وقد أخبر الله تعالى عن الإنسان { وإنه لحب الخير لشديد } والخير هنا المال اتفاقا كما قال صاحب الفتح وفيه التمسك بالعموم لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } تناول ذلك لجميع أفراده فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء يعينه ، بل بادر إلى إنفاق ما يحبه ، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك

                                                                                                                                            وفيه جواز تولي المتصدق لقسم صدقته وفيه جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصلت له بغير مسألة واستدل به على مشروعية الحبس والوقف قال الحافظ : ولا حجة فيه لاحتمال أن تكون صدقة أبي طلحة صدقة تمليك قال : وهو ظاهر سياق ابن الماجشون عن إسحاق ، يعني في رواية البخاري وفيه أنه لا يجب الاستيعاب لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيرا قوله : ( فعم وخص ) أي جاء بالعام أولا فنادى بني كعب ، ثم خص بعض البطون فنادى بني مرة بن كعب وهم بطن من بني كعب ثم كذلك

                                                                                                                                            وفيه دليل على أن جميع من ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلق عليهم لفظ الأقربين لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ممتثلا لقوله تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين } واستدل به أيضا على دخول النساء في الأقارب لعموم اللفظ ولذكره صلى الله عليه وسلم فاطمة وفي رواية للبخاري من [ ص: 37 ] حديث أبي هريرة هذا أيضا أنه صلى الله عليه وسلم ذكر عمته صفية واستدل به أيضا على دخول الفروع وعلى عدم التخصيص بمن يرث ولا بمن كان مسلما قال في الفتح : ويحتمل أن يكون لفظ الأقربين صفة لازمة للعشيرة ، والمراد بعشيرته قومه وهم قريش وقد روى ابن مردويه من حديث عدي بن حاتم { أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قريشا فقال { وأنذر عشيرتك الأقربين } يعني قومه } وعلى هذا فيكون قد أمر بإنذار قومه فلا يختص بالأقرب منهم دون الأبعد فلا حجة فيه في مسألة الوقف ، لأن صورتها ما إذا وقف على قرابته أو على أقرب الناس إليه مثلا ، والآية تتعلق بإنذار العشيرة

                                                                                                                                            وقال ابن المنير : لعله كان هناك قرينة فهم بها صلى الله عليه وسلم تعميم الإنذار ، ولذلك عمهم ا هـ ويحتمل أن يكون أولا خص اتباعا لظاهر القرابة ثم عم لما عنده من الدليل على التعميم لكونه أرسل إلى الناس كافة قوله : ( سأبلها ببلالها ) بكسر الباء ، قال في القاموس : بل رحمه بلا وبلالا بالكسر : وصلها ، وكقطام : اسم لصلة الرحم ا . هـ




                                                                                                                                            الخدمات العلمية