الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض : شروع في تعديد بعض من قبائحهم المتفرعة على ما حكي عنهم من الكفر والنفاق؛ و"إذا" ظرف زمن مستقبل؛ ويلزمها معنى الشرط غالبا؛ ولا تدخل إلا في الأمر المحقق؛ أو المرجح وقوعه؛ واللام متعلقة بـ "قيل"؛ ومعناها الإنهاء والتبليغ؛ والقائم مقام فاعله جملة "لا تفسدوا"؛ على أن المراد بها اللفظ؛ وقيل: هو مضمر؛ يفسره المذكور؛ والفساد خروج الشيء عن الحالة اللائقة به؛ والصلاح مقابله؛ والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد؛ واختلال أمر المعاش والمعاد؛ والمراد بما نهوا عنه: ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار؛ وإغرائهم عليهم؛ وغير ذلك من فنون الشرور؛ كما يقال للرجل: لا تقتل نفسك بيدك؛ ولا تلق نفسك في النار؛ إذا أقدم على ما تلك عاقبته؛ وهو إما معطوف على "يقول"؛ فإن جعلت كلمة "من" موصولة فلا محل له من الإعراب؛ ولا بأس بتخلل البيان؛ أو الاستئناف؛ وما يتعلق بهما بين أجزاء الصلة؛ فإن ذلك ليس توسيطا بالأجنبي؛ وإن جعلت موصوفة فمحله الرفع؛ والمعنى: ومن الناس من إذا نهوا من جهة المؤمنين عما هم عليه من الإفساد في الارض؛ قالوا ؛ إراءة للناهين أن ذلك غير صادر عنهم؛ مع أن مقصودهم الأصلي إنكار كون ذلك إفسادا؛ وادعاء كونه إصلاحا محضا؛ كما سيأتي توضيحه: إنما نحن مصلحون ؛ أي: مقصورون على الإصلاح المحض؛ بحيث لا يتعلق به شائبة الإفساد والفساد؛ مشيرين بكلمة "إنما" إلى أن ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه؛ وإما كلام مستأنف؛ سيق لتعديد شنائعهم، وأما عطفه على "يكذبون" بمعنى: ولهم عذاب أليم بكذبهم؛ وبقولهم حين نهوا عن الإفساد: إنما نحن مصلحون؛ كما قيل؛ فيأباه أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية؛ مسلمة الثبوت للموصوف؛ غنية عن البيان؛ لشهرة الاتصاف بها عند السامع؛ أو لسبق ذكره صريحا؛ كما في قوله (تعالى): بما كانوا يكذبون ؛ فإن مضمونه عبارة عما حكي عنهم من قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر؛ أو لذكر ما يستلزمه استلزاما ظاهرا؛ كما في قوله - عز وجل -: إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ؛ فإن ما ذكر من الضلال عن سبيل الله مما يوجب حتما نسيان جانب الآخرة؛ التي من جملتها يوم الحساب؛ وما لم يكن كذلك فحقه أن يخبر بعليته قصدا؛ كما في قوله (تعالى): ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار ؛ الآية.. وقوله: ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ؛ الآية.. إلى غير ذلك؛ ولا ريب في أن هذه الشرطية؛ وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها؛ ليس مضمون شيء منها معلوم الانتساب إليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة؛ حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل المذكور؛ فإذن حقها أن تكون مسوقة على سنن تعديد قبائحهم على أحد الوجهين؛ مفيدة لاتصافهم بكل واحد من تلك الأوصاف؛ قصدا واستقلالا؛ كيف لا..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية