الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            [ ص: 196 ] 22 - القول المشيد في وقف المؤيد

            بسم الله الرحمن الرحيم

            الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع السؤال عن وقف الملك المؤيد شيخ ، وذلك أنه وقف وقفا وقال فيه : مهما فضل بعد المصارف يصرف لأولاده لصلبه ، ثم لأولادهم ، ثم لذريتهم ونسلهم وعقبهم طبقة بعد طبقة ، تحجب الطبقة العليا منهم أبدا الطبقة السفلى على أن من مات منهم عن ولد أو ولد ولد ، وإن سفل انتقل نصيبه إليه ، فإن لم يكن له ولد ولا نسل ولا عقب انتقل نصيبه إلى من هو في درجته ، يقدم الأقرب إلى المتوفى منهم فالأقرب ، ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة الإخوة على غيرهم ، ويقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب ، وابن العم الشقيق على ابن العم للأب ، وعلى أنه من توفي منهم ومن أولادهم ومن أولاد أولادهم ومن أنسالهم وأعقابهم - وإن سفل - قبل استحقاقه لشيء من منافع هذا الوقف وترك ولدا أو ولد ولد أو نسلا أو عقبا أو أسفل من ذلك ، استحق ولده والأسفل منه ما كان يستحقه المتوفى لو بقي حيا ، حتى يصير إليه شيء من منافع هذا الوقف ، وقام في الاستحقاق مقام المتوفى أبا كان أو أما أو جدا أو جدة ومن يجري مجراهم ، ومات الواقف وخلف أولادا ذكورا وإناثا ، ثم ماتوا ولم يبق للواقف إلا ابنة واحدة ، فماتت وخلفت ابنة وابنة ابن ، فهل تقدم الابنة عملا بقول الواقف : يقدم الأقرب إلى المتوفى منهم فالأقرب ، أو يشاركها ابن الابن ؟

            فأفتيت بما نصه : تختص البنت بنصيب أمها ولا يشاركها ابن الابن ؛ وذلك لأمرين : أحدهما : قوله : إن من مات عن نصيب وله ولد وأسفل منه ينتقل نصيبه لولده ويقدم الأقرب إلى المتوفى منهم فالأقرب ، وهذه صورة هذه الواقعة ، فإن بنت الواقف ماتت عن نصيب ولها ولد وأسفل منه ، فينتقل نصيبها لولدها ويقدم الأقرب ، وهي البنت على الأبعد وهو ابن الابن ؛ عملا بتنصيص الواقف في هذه الصورة بخصوصها .

            والثاني قوله : تحجب العليا الطبقة السفلى ، فقد أفتى السبكي في هذه الصورة بعينها بأن العمة تختص ولا يشاركها أولاد إخوتها ، هكذا أجاب به في ثلاثة مواضع من فتاويه ، وقال : عملا بقوله : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، وقال : إن العمل بهذه الجملة أولى من العمل بجملة : ومن مات قبل الاستحقاق ، إلى آخره ؛ لأن العمل بالجملة الأولى لا يؤدي إلى إلغاء الجملة الثانية بالكلية ؛ لأنها يعمل بها في بعض الصور وهو ما إذا فقد من هو أقرب ، بخلاف العمل بالجملة الثانية [ ص: 197 ] فإنه يؤدي إلى إلغاء الجملة الأولى بالكلية ، فإن حملها على حجب كل أصل لفرعه فقط غير مفيد ؛ لعدم الحاجة إليه إذ لم يدخل ولد الولد في لفظ الوقف مع وجود الولد حتى يحتاج إلى الاحتراز عنه وأكثر ما يقال : إنه تأكيد ، والتأسيس أولى من التأكيد ، وهذا كلام السبكي في أحد المواضع ، وقال في موضع آخر : إن بعض الحنابلة خالفه وأفتى بالمشاركة وحمل حجب الطبقة العليا السفلى على حجب كل أصل لفرعه لا على الترتيب بين الطبقتين ، قال : وهذا ضعيف وخلاف الظاهر ، وأطال السبكي الكلام في تقرير ذلك في موضعين آخرين بما لا يحتمل المحل بسطه ووافقه الشيخ ولي الدين العراقي ، فأفتى في صورة نظير هذه بالاختصاص أيضا وعدم المشاركة تقديما لأقرب الطبقتين ، ثم قال : وبلغني عن بعض الشافعية والمالكية والحنابلة أنهم أفتوا بالمشاركة عملا بقول الواقف : ومن مات قبل الاستحقاق ، إلى آخره ، قال : وهذا عندي ضعيف ؛ لأنا لا نخص عموم حجب الطبقة العليا السفلى بهذا المفهوم المستنبط من عبارة الواقف ، وإنما نخصه بأحد المخصصات المعروفة ، ولم يوجد ذلك إلا فيما إذا مات عن نصيب وله ولد ، فإنه ينتقل نصيبه إليه ، هذا كلام الشيخ ولي الدين .

            واعلم أن السبكي إنما اعتمد في جوابه على جملة : تحجب العليا السفلى ، فقط ؛ لأنه لم يكن في لفظ سؤاله غيره ، ونحن اعتمدنا في جوابنا عليه ، وعلى أمر ثان هو أقوى منه ، وهو تنصيص الواقف على تقديم الأقرب إلى المتوفى عند ذكر من مات عن نصيب وله ولد أو أسفل منه ، وبيان كون هذا أقوى أن المقرر في علم الأصول أن الألفاظ ثلاثة : نص وظاهر ومحتمل ، فالنص ما لا يحتمل إلا معنى واحدا ، والظاهر ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر ، والمحتمل ما احتمل معنيين على السواء من غير رجحان ، ومرتبتها في القوة على هذا الترتيب ، وأنه عند التعارض يقدم النص على الظاهر ، والظاهر على المحتمل .

            وقد اجتمعت الألفاظ الثلاثة في هذا الوقف ، فالنص قوله : فيمن مات عن نصيب وله ولد أو أسفل منه ، أنه يقدم الأقرب إلى المتوفى ، فإن هذا لا يحتمل إلا معنى واحدا ، والظاهر قوله : تحجب الطبقة العليا السفلى ، فإن هذا يحتمل معنيين أحدهما أن يراد حجب كل أعلى لكل أسفل ، والثاني أن يراد حجب كل أصل لفرعه فقط ، والحمل على المعنى الأول أظهر ؛ لما ذكره السبكي من أن الثاني لا فائدة له إلا التأكيد ، والتأسيس أرجح من التأكيد ، وقد توافق في هذا الوقف النص والظاهر معا من غير تعارض ، والمحتمل قوله : ومن مات قبل الاستحقاق ، إلى آخره ، فإنه يحتمل أن يراد : استحق مطلقا مع من هو في درجته ومع من هو [ ص: 198 ] أعلى منه ، ويحتمل أن يراد : استحق مع فقد من هو أعلى منه فقط ، والمعنيان من حيث اللفظ على السواء ، فقدم النص والظاهر معا ؛ لقوتهما وأخر هذا المحتمل ليعمل به في صورة لم يعارضاه فيها ، وهو ما إذا فقد من هو أعلى منه وأقرب ؛ ولما لم يكن في سؤال السبكي لفظ هو نص ، وكان فيه لفظ ظاهر ، وهو : تحجب الطبقة العليا السفلى ، ولفظ محتمل ، وهو قوله : ومن مات قبل الاستحقاق ، إلى آخره ، وقد تعارضا ، رجح العمل بالظاهر على المحتمل جريا على القاعدة ، وما وقع لبعض الأئمة من الإفتاء فيها بالمشاركة ، فذاك لكون لفظ السؤال فيها مخالفا للفظ هذا السؤال ، والأجوبة في الأوقاف تختلف باختلاف الألفاظ ، فإن مبناها على مقتضيات الألفاظ ، فمتى اختلف بتغيير أو زيادة أو نقص اختلف الجواب بحسبه ، والله أعلم .

            تقرير آخر يوضح ما تقدم : قول الواقف : "على أن من مات منهم عن ولد وإن سفل انتقل نصيبه إليه ، فإن لم يكن له ولد ولا نسل انتقل نصيبه إلى من هو في درجته ، يقدم الأقرب إلى المتوفى منهم فالأقرب ، ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة الإخوة على غيرهم " اشتمل على أمرين : أحدهما أن نصيب من مات ينتقل إلى شعب الولد به . الثاني أنه عند فقد شعب الولد به ينتقل إلى نوع من في الدرجة ، فقوله : يقدم الأقرب إلى المتوفى منهم فالأقرب ، راجع إلى شعب الولد به ، وقوله : ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة الإخوة على غيرهم ، راجع إلى نوع أهل الدرجة ، ولو كان قوله : يقدم الأقرب ، خاصا بأهل الدرجة وليس راجعا إلى شعب الأولاد ، لم يقل في الجملة المعطوفة عليه : ويقدم في الاستحقاق من أهل الدرجة ، بل كانت العبارة : يقدم الأقرب فالأقرب ، وتقدم الإخوة على غيرهم ، فلما خص هذه الجملة بأهل الدرجة عرف أن الجملة التي قبلها إما أعم من ذلك وإما خاصة بشعب الأولاد ، فكما أنه إذا اجتمع في الدرجة إخوة وغيرهم وكان في غير الإخوة من مات أبوه قبل الاستحقاق ولو كان حيا لاستحق ، لم يعط شيئا مع الإخوة ؛ عملا بتنصيص الواقف على تقديم الإخوة من أهل الدرجة على غيرهم ، فكذلك إن كان مع الأولاد أولاد أولاد مات آباؤهم قبل الاستحقاق ، ولو كانوا أحياء لاستحقوا ، لا يعطون مع الأولاد شيئا ، عملا بتنصيص الواقف في هذا النوع على تقديم الأقرب إلى المتوفى منهم فالأقرب .

            ولنسق عبارة السبكي في المواضع المذكورة لتستفاد :

            الموضع الأول : سئل السبكي عن امرأة وقفت على ذكور وإناث بالسوية ، فإن توفي واحد منهم عن ولد وإن سفل انتقل نصيبه إليه ، فإن لم يخلف ولدا فلإخوته الأشقاء ، ثم لغير الأشقاء ، ثم إلى من بقي من أهل طبقته ، ثم لأقرب الطبقات إلى الطبقة التي هو فيها على أن من توفي منهم قبل استحقاقه [ ص: 199 ] شيئا من منافعه عن ولد وإن سفل ، ثم عادت شرائط الوقف إلى حال لو كان المتوفى فيها حيا لاستحق ، أقيم أقرب الطبقات إليه من ولده مقامه ، وعاد له ما كان يعود لمتوفاه لو كان حيا ، تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، فتوفيت امرأة من أهل الوقف تدعى فاطمة وتركت بنت عمها ست اليمن وأولاد ثلاث أخوات لست اليمن ، ماتت الأخوات قبل وفاة فاطمة قبل انتهاء الوقف إليهن وبقي أولادهن ، فهل ينتقل نصيب فاطمة لست اليمن وحدها أو يشاركها فيه أولاد أخواتها ؟ .

            فأجاب الشيخ تقي الدين السبكي : ينتقل نصيب فاطمة لست اليمن عملا بقوله : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، قال : وقد تعارض في هذا الوقف عمومان أحدهما هذا ، فإنه أعم من حجب كل شخص ولده خاصة ومن حجبه الطبقة السفلى بكمالها من ولده وولد غيره ، والثاني : قوله أن من توفي قبل استحقاقه يقام أقرب الطبقات إليه من ولده مقامه ، وهذا أعم من أن يكون بقي من طبقة المتوفى أحد أو لا ، فحجب كل شخص لولده لا إشكال فيه ، ومحل التعارض في إقامة ولد المتوفى مقامه عند وجود أقرب منه ، وفي مثل هذا التعارض يحتاج إلى الترجيح ، ووجه الترجيح أن العمل هنا بعموم قوله : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، لا يوجب إلغاء قوله : أن من توفي قبل استحقاقه يقام ولده مقامه ؛ لأنا نعمل به عند عدم من هو أقرب منه ، بخلاف العكس وهو أن يجعل هذا على عمومه ونقيم الولد مقام والده مطلقا ، فإن فيه إلغاء قوله : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى .

            وبيانه أن حجب الشخص غير ولده خارج منه على هذا التقدير ، وحجبه ولده إنما يحتاج إليه لو كان في اللفظ الأول ما يدخله ، وليس كذلك ؛ لأنه إنما وقف على الأقرب ، فلا يدخل ولد الولد مع وجود الولد فيه ، حتى يحترز منه ، غاية ما في الباب أن يقال : هو تأكيد ، والتأسيس أولى من التأكيد - هذا جواب السبكي بحروفه . ولو لم يكن في فتاويه إلا هذا الموضع لكان فيه كفاية لكن ذكره في مواضع أخر نسوقها .

            الموضع الثاني : سئل السبكي عن رجل وقف على المجبر ، ثم على أولاده أحمد وعائشة وفاطمة وزينب ، ثم على أولادهم وإن سفلوا ، ومن مات وله ولد وإن سفل كان نصيبه له ، وإن مات أحد ليس له نصيب وله أولاد وإن سفلوا وآل الأمر إليهم استحقوا ، تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، وتوفي المجبر ، ثم توفيت بنته زينب ، ثم ولده أحمد ، وترك أولادا : أبا بكر وعليا وعبد المحسن وشامية ، وتوفيت فاطمة بنت المجبر وتركت بنتيها [ ص: 200 ] ملوك وشرف ، ورزقت عائشة أولادا محمدا ونفيسة ودنيا ، ثم رزقت دنيا المذكورة في حياة أمها محمدا وعيسى وآسن ومريم ، ثم رزقت مريم محمدا ، ثم ماتت مريم المذكورة في حياة جدتها عائشة ، ثم ماتت عائشة عن محمد ونفيسة ودنيا وأولادها محمد وعيسى وآسن وعن محمد ابن مريم المتوفاة في حياتها ، فهل لمحمد ابن مريم هذا شيء بحكم تنزيله منزلة أمه ؟

            فأجاب السبكي : الظاهر أنه لا يستحق لقوله : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، فهو محجوب بأخواله ، فإنه إنما يستحق من أمه أو جدته ، لا جائز أن يستحق من أمه ؛ لأنها حين ماتت كانت محجوبة بأمها قطعا ، فليس لها شيء ينتقل لابنها ، فلم يبق إلا استحقاقه من جدته على أن نصيبها ينتقل لأولادها وأولاد أولادها ، لكنه قال : تحجب الطبقة العليا السفلى ، وإطلاق ذلك يقتضي العموم ، ويحتمل أن يراد : يحجب كل أصل فرعه ، ثم قال :

            واعلم أن هذه المسألة قد تكررت وأنا أستشكلها جدا ، وأقدم فيها وأؤخر ، وهي في غاية الإشكال ، ينبغي النظر فيها أكثر من هذا ، وأن لا يستعجل فيها بالجواب ، والصيغ التي ترد في الأوقاف مختلفة ، فمنها أن يقول : تحجب الطبقة العليا السفلى ، ثم يقول : من مات انتقل نصيبه ، فهنا يظهر أنه إذا مات واحد وله ابن وابن ابن ، يقدم الابن على ابن الابن عملا بقوله : تحجب العليا السفلى ، فإنه عام إلا فيمن كان له نصيب ومات ، فينتقل نصيبه لولده بمقتضى اللفظ الثاني على سبيل التخصيص ويبقى العموم فيما عداه ، وهذا أولى من حمل : تحجب العليا السفلى ، على حجب الأصل لفرعه فقط ؛ لأنه يمكن تخصيصه ؛ ولأن قوله ، نصيبه : حقيقته أن يكون له نصيب يتناوله ، وحمله على الاستحقاق الذي يصل إليه بعد ذلك مجاز لا دليل عليه ، وغاية ما في الباب أنه قد يموت قبل الاستحقاق وذلك لا يضر ، فإنه في كل الأحوال قد يحصل ذلك ، وحينئذ يحتمل أن يقال : إنه دخل في الوقف موقوفا على شرط وخرج منه بموته ، ولا يمتنع أن يقال : إنه بموته تبين أنه لم يدخل أصلا ، وكلا الاحتمالين سائغ لا مانع منه ، ومنها الصيغة المذكورة ، ولكن بموت هذا الابن بعد ويترك ابنا ، فهو مساو لابن عمه في الطبقة ، فهل يأخذ ابن عمه ما كان لأبيه لو كان حيا ؟ لأن المانع له حجب عمه له وقد زال ، ولا يأخذ لأنه إنما يأخذ من أبيه ، وأبوه لا حق له ، هذا محل احتمال ، والأقرب أنه إن كان لفظ آخر عام يمكن إخراجه منه استحق وإلا فلا ، مثال الأول قوله : وقفت على أولادي وأولاد أولادي ، بالواو لا بـ ( ثم ) ويذكر الصيغتين بعد ذلك ، فهنا أقول : إنه يستحق بعد وفاة عمه ما كان أبوه يستحقه لو كان حيا ، ويختص ابن عمه الآن من نصيب أبيه بما كان له حين كان [ ص: 201 ] أبوه حيا ، وإن كان هذا يخالف ظاهر قوله : من مات انتقل نصيبه إلى ولده ؛ لأنه ليس مخالفة هذا أبعد من مخالفة عموم قوله : ثم على أولاد أولاده ، فيعمل في العام المتقدم إلا فيما خص به قطعا بقوله : تحجب الطبقة العليا الطبقة السفلى ، وأيضا به حجب العم لابن أخيه ، ويبقى فيما عداه على الأصل ، ويكون قوله : انتقل نصيبه لولده ، معناه في هذه الحالة : نصيبه الأصلي ، ومنها أن يقول : وقفته على أولادي ثم أولاد أولادي ، من مات منهم انتقل نصيبه لولده ، تحجب الطبقة العليا السفلى ، فهنا حجب ابن المتوفى لابن أخيه صريح أصرح من الأول بعد حكم من مات .

            الموضع الثالث : سئل السبكي عن رجل عليه وقف ، فإذا توفي عاد وقفا على ولديه أحمد وعبد القادر بينهما بالسوية نصفين ، يجري نصيب كل منهما عليه ثم على أولاده واحدا أو أكثر ذكرا أو أنثى أو ذكورا وإناثا ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم على أولاد أولاده كذلك ، ثم على أولاد أولاد أولاده مثل ذلك ، ثم على نسله وعقبه بطنا بعد بطن ، على أنه من توفي من الأخوين المذكورين ومن أولادهما وأنسالهما عن ولد أو ولد ولد أو نسل ، عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على ولده ، ثم على ولد ولده ، ثم على نسله على الفريضة وعلى أنه من توفي منهما أو من أولادهما وأنسالهما عن غير نسل عاد ما كان جاريا عليه من ذلك على من في درجته من أهل الوقف المذكور يقدم الأقرب إليه منهم فالأقرب ويستوي الأخ الشقيق والأخ من الأب ، ومن مات من أهل الوقف المذكور قبل استحقاقه لشيء من منافع الوقف وترك ولدا أو ولد ولد أو أسفل من ذلك استحق ولده أو ولد ولده أو الأسفل ما كان يستحقه المتوفى لو بقي حيا إلى أن يصير إليه شيء من منافع الوقف المذكور وقام في الاستحقاق مقام المتوفى ، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين ، وتوفي الموقوف عليه وانتقل الوقف إلى ولديه أحمد وعبد القادر ، ثم توفي عبد القادر وترك أولاده الثلاثة وهم عمر وعلي ولطيفة ، وولدي ابنه محمد المتوفى في حياة والده وهما عبد الرحمن وملكة ، ثم توفي عمر عن غير نسل ، ثم توفيت لطيفة عن بنت تسمى فاطمة ، ثم توفي علي وترك بنتا تسمى زينب ، ثم توفيت فاطمة بنت لطيفة عن غير نسل ، فإلى من ينتقل نصيب فاطمة المذكورة؟ .

            فأجاب السبكي بما نصه : الحمد لله ، الذي ظهر الآن أن نصيب عبد القادر جميعه يقسم هذا الوقف على ستين جزءا : لعبد الرحمن منه اثنان وعشرون جزءا ، ولملكة أحد عشر ، ولزينب سبعة وعشرون ، ولا يستمر هذا الحكم في أعقابهم ، بل في كل وقت بحسبه ، ولا [ ص: 202 ] أشتهي أحدا من الفقهاء يقلدني في ذلك بل ينظر لنفسه ، والله أعلم . كتبه علي السبكي الشافعي في ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة إحدى وسبعمائة .

            قال السبكي : فذكر السائل أنه لم يتبين له هذا الجواب بعد أن أقام ينظر فيه أياما ، فكتبت بيان ذلك ، وبالله التوفيق : إنه لما توفي عبد القادر انتقل نصيبه إلى أولاده الثلاثة وهم عمر وعلي ولطيفة بينهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين : لعلي خمساه ولعمر خمسه وللطيفة خمسه ، هذا هو الظاهر عندنا ، ويحتمل أن يقال : يشاركهم عبد الرحمن وملكة ولدا محمد المتوفى في حياة أبيه ونزلا منزلة أبيهما ، فيكون لهما السبعان ، ولعلي السبعان ، ولعمر السبعان وللطيفة السبع ، وهذا وإن كان محتملا فهو مرجوح عندنا ؛ لأن الممكن في مأخذه ثلاثة أمور : أحدها يزعمه بعض الحنابلة أن مقصود الواقف أن لا يحرم أحدا من ذريته ، وهذا ضعيف ؛ لأن المقاصد إذا لم يدل عليها اللفظ لا تعتبر .

            الثاني : إدخالهم في الحكم وجعل الترتيب بين كل أصل وفرعه لا بين الطبقتين جميعا ، وهذا محتمل لكنه خلاف الظاهر ، وقد كنت مرة ملت إليه في وقف الطنبا للفظ اقتضاه فيه لست أعمه في كل ترتيب .

            الثالث : الاستناد إلى قول الواقف أن من مات من أهل الوقف قبل استحقاقه لشيء قام ولده مقامه ، وهذا الاستناد لا يتم ، وقد تعرض السبكي لهذا السؤال الأخير في شرح المنهاج ، وقال بعد أن ساق صورة السؤال : لما توفي عبد القادر انتقل نصيبه إلى أولاده عمر وعلي ولطيفة : لعلي خمساه ولعمر خمساه وللطيفة خمسه ، ولا يشاركهم عبد الرحمن وملكة ولدا محمد ، على الرأي الأرجح ، ويحتمل أن يقال بمشاركتهما لهم ، إما لما يزعمه بعض الحنابلة أن مقصود الواقف أن ذريته لا تحرم جعل الترتيب بين كل أصل وفرعه لا بين الطبقتين ، وإما لأن والدهما من أهل الوقف في حياة والده ، والكل ضعيف - هذا لفظه في شرح المنهاج .

            وسئل الشيخ ولي الدين العراقي عمن وقف وقفا على أولاده على أن من توفي من ذكورهم انتقل نصيبه إلى أولاده ، ثم إلى أولاد أولاده ، ثم إلى نسله وعقبه الذكور والإناث من ولد الظهر خاصة دون ولد البطن ، تحجب الطبقة العليا منهم أبدا الطبقة السفلى ، على أن من توفي من أولاد الظهر المذكورين وترك ولدا أو ولد ولد أو أسفل من ذلك ، انتقل نصيبه إلى ولده ، ثم إلى ولد ولده ، ثم إلى نسله وعقبه من ولد الظهر خاصة ، فإن لم يترك ولدا ولا نسلا ولا عقبا انتقل نصيبه إلى إخوته وأخواته وكان من توفيت من الإناث من أولاد الواقف ومن بقية أولاد الظهر من نسله ، انتقل نصيبها إلى إخوتها وأخواتها ، فإن لم يترك ولدا غيرهن من ولد الظهر ولا أخا ولا أختا ، أو لم تترك المتوفاة من الإناث منهم أخا ولا أختا من [ ص: 203 ] أولاد الظهر المذكورين المشاركين له في الاستحقاق ، وكل من مات من أولاد الظهر المذكورين قبل دخوله في هذا الوقف واستحقاقه لشيء من منافعه وخلف ولدا أو أسفل منه من ولد الظهر وآل الوقف إلى حال لو كان المتوفى حيا لاستحق ذلك أو شيئا منه ، قام ولده ثم ولد ولده وإن سفل من ولد الظهر مقامه ، واستحق ما كان أصله يستحقه لو كان حيا ، فإذا انقرض أولاد الظهر صرف ما عين لهم إلى أولاد البطن على الوجوه المشروحة في أولاد الظهر ، فآل استحقاق الوقف إلى بنت ابن ابن الواقف ، وهي آخر أولاد الظهر ، فلما ماتت تركت ابنا وللواقف بنت بنت وابن بنت بنت ، فهؤلاء الثلاث من أولاد البطون ، فمن المستحق منهم؟ .

            فأجاب الشيخ ولي الدين بما نصه : المستحق لذلك بنت بنت الواقف دون ابن بنت بنته ودون ابن بنت ابن ابنه ؛ عملا بقول الواقف أن الطبقة العليا تحجب السفلى ، إلا فيما استثناه من أن يموت إنسان ويخلف ولدا ، فيستحق ما كان أصله يستحقه ، وليس هذا من المستثنى .

            قال : ثم بلغني أن بعض المالكية والشافعية والحنابلة أفتوا بأن المستحق لذلك ابن بنت ابن ابنه ، فإن أمه هي التي آل إليها الاستحقاق ، فينتقل له ما كان لأمه عملا بشرط الواقف : إن من مات وله ولد انتقل نصيبه إليه ، قال : وهذا غلط وغفلة ، فإنه قيد ذلك فيما إذا كان المتوفى من أولاد الظهر ، وأن يكون ولده أيضا من أولاد الظهر ، وقال حين مصير الوقف لأولاد البطن : إنهم يستحقونه على الوجوه المشروحة في أولاد الظهر ، وهذا الولد خارج عن الصورتين ، فإن أمه آخر أولاد الظهر ، فلما لم يبق أحد من أولاد الظهر انتقل لأولاد البطن ورجحنا أقربهم طبقة كما تقدم ، قال : ثم بلغني أن بعض الحنابلة والشافعية أفتى باشتراك الثلاثة المذكورين في استحقاق الوقف ؛ لأن كلا منهم قد كان له أصل مستحق ، وقد فهم من كلام الواقف أن حجب الطبقة العليا للسفلى إنما هو فيما إذا كانت العليا أصل السفلى ؛ لأن من مات وله ولد استحق ولده نصيب والده ، فإن كان والده قد مات قبل إيالة الاستحقاق إليه استحق ولده ما كان يستحقه لو كان حيا ، فعلم أن الواحد لا يحجبه عمه ولا خاله ، وإنما يحجبه أصله وهؤلاء الثلاثة أصولهم مختلفة ، فاستحقوا كلهم ، قال : وهذا عندي ضعيف ، فإنا لا نخص عموم حجب الطبقة العليا للسفلى بهذا الأمر المستنبط المفهوم من عبارة الواقف ، وإنما نخصه بأحد المخصصات المعروفة ولم يوجد ذلك إلا ، فيمن يموت عن ولد مرافق له . انتهى .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية