الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون . ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون . ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون . ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: اليوم نختم على أفواههم وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: "يختم" بياء مضمومة وفتح التاء "وتكلمنا" قرأ ابن مسعود: "ولتكلمنا" بزيادة لام مكسورة وفتح الميم وواو قبل اللام . وقرأ أبي بن كعب ، وابن أبي عبلة: "لتكلمنا" بلام مكسورة من غير واو قبلها وبنصب الميم; وقرؤوا جميعا: "ولتشهد أرجلهم" بلام مكسورة وبنصب الدال .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى "نختم": نطبع عليها، وقيل: منعها من الكلام هو الختم عليها، وفي سبب ذلك أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنهم لما قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين [الأنعام: 23] ختم الله على أفواههم ونطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي صارت شهودا [عليهم] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 32 ] والثالث: ليعرفهم أهل الموقف، فيتميزوا منهم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: لأن إقرار الجوارح أبلغ في الإقرار من نطق اللسان، ذكرهن الماوردي .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: ما الحكمة في تسمية نطق اليد كلاما ونطق الرجل شهادة؟

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب: أن اليد كانت مباشرة والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما فعل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فيه ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: ولو نشاء لأذهبنا أعينهم حتى لا يبدو لها شق ولا جفن .

                                                                                                                                                                                                                                      والمطموس: الذي لا يكون بين جفنيه شق، فاستبقوا الصراط أي: فتبادروا إلى الطريق فأنى يبصرون [أي]: فكيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم؟! وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وأبو رجاء: "فاستبقوا" بكسر الباء "فأنى تبصرون" بالتاء . وهذا تهديد لأهل مكة، وهو قول الأكثرين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: ولو نشاء لأضللناهم وأعميناهم عن الهدى، فأنى يبصرون الحق؟! رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم وأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم، فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم؟! روي عن جماعة منهم مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم وروى أبو بكر عن عاصم: "على مكاناتهم"; وقد سبق بيان هذا [البقرة: 65] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 33 ] وفي المراد بقوله: "لمسخناهم" أربعة أقوال أحدها: لأهلكناهم، قاله ابن عباس . والثاني: لأقعدناهم على أرجلهم، قاله الحسن، وقتادة . والثالث: لجعلناهم حجارة، قاله أبو صالح، ومقاتل . والرابع: لجعلناهم قردة وخنازير لا أرواح فيها، قاله ابن السائب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله: فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ثلاثة أقوال . أحدها: فما استطاعوا أن يتقدموا ولا أن يتأخروا، قاله قتادة . والثاني: فما استطاعوا مضيا عن العذاب، ولا رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ، قاله الضحاك . والثالث: مضيا من الدنيا ولا رجوعا إليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ومن نعمره ننكسه في الخلق قرأ حمزة: "ننكسه" مشددة مع ضم النون الأولى وفتح الثانية; والباقون: بفتح النون الأولى وتسكين الثانية من غير تشديد; وعن عاصم كالقراءتين . ومعنى الكلام: من نطل عمره ننكس خلقه، فنجعل مكان القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم، فنرده إلى أرذل العمر . أفلا يعقلون قرأ نافع، وأبو عمرو : "أفلا تعقلون" بالتاء، والباقون بالياء . والمعنى: أفلا يعقلون أن من فعل هذا قادر على البعث؟!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية