الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 33 ] ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الواحدي -رحمه الله- : النجوى في اللغة : سر بين اثنين ، يقال : ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ، ويقال : نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى : ناجيته ، والنجوى : قد تكون مصدرا بمنزلة المناجاة ، قال تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [المجادلة : 7] . وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون ، قال تعالى : ( وإذ هم نجوى ) [الإسراء : 47] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( إلا من أمر بصدقة ) ذكر النحويون في محل " من " وجوها ، وتلك الوجوه مبنية على معنى النجوى في هذه الآية ، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب ؛ لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه ، فيكون نصبا كقوله : ( إلا أذى ) [آل عمران : 111] . ويجوز أن يكون رفعا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس ، كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                            إلا اليعافير وإلا العيس

                                                                                                                                                                                                                                            وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال : التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ، ثم حذف المضاف ، وعلى هذا التقدير يكون " من " في محل النجوى ؛ لأنه أقيم مقامه ، ويجوز فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : الخفض بدل من نجواهم ، كما تقول : ما مررت بأحد إلا زيد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : النصب على الاستثناء ، كما تقول : ما جاءني أحد إلا زيدا ، وهذا استثناء الجنس من الجنس ، وأما إن جعلنا النجوى اسما للقوم المتناجين كان منصوبا على الاستثناء ؛ لأنه استثناء الجنس من الجنس ، ويجوز أن يكون " من " في محل الخفض من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن تجعله تبعا لكثير ، على معنى : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة ، كقولك : لا خير في القوم إلا نفر منهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن تجعله تبعا للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد ، إن شئت أتبعت زيدا الجماعة ، وإن شئت أتبعته القوم ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة ، والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ، ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير . ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع : الأمر بالصدقة ، والأمر بالمعروف ، والإصلاح بين الناس ، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة ؛ وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، أما إيصال الخير ؛ فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : ( إلا من أمر بصدقة ) وإما أن يكون من الخيرات الروحانية ، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله : ( أو معروف ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما إزالة الضرر فإليها [ ص: 34 ] الإشارة بقوله : ( أو إصلاح بين الناس ) فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية ، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام : " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر أو ذكر لله " .

                                                                                                                                                                                                                                            وقيل لسفيان الثوري : ما أشد هذا الحديث ، فقال سفيان : ألم تسمع الله يقول : ( لا خير في كثير من نجواهم ) . فهو هذا بعينه ، أما سمعت الله يقول : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [العصر : 1 ] فهو هذا بعينه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) والمعنى : أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة ، إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى بها لوجه الله ، ولطلب مرضاته ، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية ، فصارت من أعظم المفاسد ؛ وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية ، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) [البينة : 5] وقوله : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [النجم : 39] ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "إنما الأعمال بالنيات" وههنا سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : لم انتصب " ابتغاء مرضاة الله " ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : لأنه مفعول له ، والمعنى : لأنه لابتغاء مرضاة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : كيف قال : ( إلا من أمر ) ، ثم قال : ( ومن يفعل ذلك ) ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنه ذكر الأمر بالخير ؛ ليدل به على فاعله ؛ لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين ، فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ، ويجوز أن يراد : ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل ؛ لأن الأمر أيضا فعل من الأفعال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية