الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كلام مستأنف ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين . والنصيب : الحظ ، والمراد اليهود أوتوا نصيبا من التوراة . وقوله : يشترون جملة حالية ، والمراد بالاشتراء الاستبدال ، وقد تقدم تحقيق معناه . والمعنى : أن اليهود استبدلوا الضلالة ، وهي البقاء على اليهودية بعد وضوح الحجة على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم . قوله : ويريدون أن تضلوا السبيل عطف على قوله : يشترون مشارك له في بيان سوء صنيعهم وضعف اختيارهم ; أي : لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى ، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال ، والجملة اعتراضية وكفى بالله وليا لكم وكفى بالله نصيرا ينصركم في مواطن الحرب ، فاكتفوا بولايته ونصره ولا تتولوا غيره ولا تستنصروه ، والباء في قوله : بالله في الموضعين زائدة . قوله : من الذين هادوا قال الزجاج : إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله : نصيرا وإن جعلت منقطعة ، فيجوز الوقف على نصيرا والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرفون ، ثم حذف ، وهذا مذهب سيبويه ، ومثله قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      لو قلت ما في قومها لم أيثم يفضلها في حسب وميسم

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : المعنى : لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ، ثم حذف . وقال الفراء : المحذوف لفظ من ; أي : من الذين هادوا من يحرفون الكلم كقوله : وما منا إلا له مقام معلوم أي من له ، ومنه قول ذي الرمة :


                                                                                                                                                                                                                                      فظلوا ومنهم دمعه سابق له

                                                                                                                                                                                                                                      أي : من دمعه ، وأنكره المبرد والزجاج ; لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة ، وقيل : إن قوله : من الذين هادوا بيان لقوله : الذين أوتوا نصيبا من الكتاب . والتحريف : الإمالة والإزالة ; أي : يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ويجعلون مكانه غيره ، أو المراد أنهم يتأولونه على غير تأويله وذمهم الله عز وجل بذلك ; لأنهم يفعلونه عنادا وبغيا ، وتأثيرا لغرض الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ويقولون سمعنا وعصينا أي : سمعنا قولك وعصينا أمرك واسمع غير مسمع أي : اسمع حال كونك غير مسمع . وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمعنى : اسمع لا سمعت ، ويحتمل أن يكون المعنى : اسمع غير مسمع مكروها ، أو اسمع غير مسمع جوابا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم الكلام في راعنا . ومعنى ليا بألسنتهم أنهم يلوونها عن الحق ; أي : يميلونها إلى ما في قلوبهم ، وأصل اللي : الفتل ، وهو منتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله . قوله : وطعنا في الدين معطوف على ليا ; أي : يطعنون في الدين بقولهم : لو كان نبيا لعلم أنا نسبه ، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ولو أنهم قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك واسمع ما نقول وانظرنا أي : لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا لكان خيرا لهم مما قالوه وأقوم أي : أعدل وأولى من قولهم الأول وهو قولهم سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب ، واحتمال الذم في راعنا ولكن لم يسلكوا المسلك الحسن ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم ، ولهذا لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا أي : إلا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض وببعض الرسل دون بعض .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ياأيها الذين أوتوا الكتاب ذكر سبحانه أولا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب . والمراد أنهم أوتوا نصيبا منه ؛ لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه ، بل حرفوا وبدلوا . وقوله : مصدقا منتصب على الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      والطمس : استئصال أثر الشيء ، ومنه فإذا النجوم طمست [ المرسلات : 8 ] يقال : نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل ويقال : طمس الأثر أي محاه كله ، ومنه ربنا اطمس على أموالهم [ يونس : 88 ] أي : أهلكها ويقال : هو مطموس البصر ، ومنه ولو نشاء لطمسنا على أعينهم [ يس : 66 ] أي أعميناهم . واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة ؟ فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين ، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ فذهب إلى الأول طائفة ، وذهب إلى الآخر آخرون ، وعلى الأول فالمراد بقوله : فنردها على أدبارها نجعلها قفا ; أي : نذهب بآثار الوجه وتخطيطه [ ص: 305 ] حتى يصير على هيئة القفا ، وقيل : إنه بعد الطمس يردها إلى موضع القفا ، والقفا إلى مواضعها ، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله : فنردها على أدبارها .

                                                                                                                                                                                                                                      قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال المبرد : الوعيد باق منتظر وقال : لا بد من طمس في اليهود ، ونسخ قبل يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه ، قيل : المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت ، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير ، وقيل : المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان . والمراد وقوع أحد الأمرين : إما الطمس ، أو اللعن . وقد وقع اللعن ، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت . قوله : وكان أمر الله مفعولا أي : كائنا موجودا لا محالة ، أو يراد بالأمر المأمور .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أنه متى أراده كان ، كقوله : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، ولا يختص بكفار أهل الحرب ؛ لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالوا : ثالث ثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته ، وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء . قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز وجل . وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة . وقد تقدم قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ النساء : 31 ] وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : يحرفون الكلم عن مواضعه يعني : يحرفون حدود الله في التوراة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : يحرفون الكلم عن مواضعه قال : تبديل اليهود التوراة ويقولون سمعنا وعصينا قالوا : سمعنا ما تقول ولا نطيعك واسمع غير مسمع قال : غير مقبول ما تقول : ليا بألسنتهم قال : خلافا يلوون به ألسنتهم واسمع وانظرنا قال : أفهمنا لا تعجل علينا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في قوله : واسمع غير مسمع قال : يقولون اسمع لا سمعت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء من أحبار اليهود : منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد ، فقال لهم : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا ، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق . فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد ، وأنزل الله فيهم ياأيها الذين أوتوا الكتاب الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : من قبل أن نطمس وجوها قال : طمسها أن تعمى فنردها على أدبارها يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : من قبل أن نطمس وجوها يقول : عن صراط الحق فنردها على أدبارها قال : في الضلالة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : وما دينه ؟ قال : يصلي ويوحد الله ، قال : استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه ، فطلب الرجل منه ذلك فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا على دينه ، فنزلت إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن المنذر وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال : إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر قال : لما نزلت ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [ الزمر : 53 ] الآية . قام رجل فقال : والشرك يا نبي الله ؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية . وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول إن الله لا يغفر أن يشرك به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في هذه الآية : إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة . وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال : أحب آية إلي في القرآن إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية