الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة .

                                                            [ ص: 214 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 214 ] الحديث الثاني عشر .

                                                            وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة . فيه فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه الأئمة الخمسة من هذا الوجه من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ، ورواه ابن عدي في الكامل في ترجمة خالد بن عمر القرشي عن الثوري قال ابن عدي ، وهذا عن الثوري عن عمرو بن دينار غير محفوظ ، وإنما رواه ابن عيينة عن عمرو ، ورواه مع ابن عيينة محمد بن مسلم الطائفي ، وغيره .

                                                            (الثانية) قوله (خدعة) فيها ثلاث لغات مشهورات (أشهرها) فتح الخاء وإسكان الدال قال النووي في شرح مسلم اتفقوا على أنها أفصحهن قال ثعلب ، وغيره وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم (قلت) الذي رواه الخطابي عن أبي رجاء الغنوي عن ثعلب أنه قال : بلغنا أنه لغة النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطابي ، ومعناه أنها مرة واحدة أي إذا خدع المقاتل مرة واحدة لم يكن لها إقالة ، وحكى القاضي عياض ثلاثة أقوال (أحدها) هذا و (الثاني) أن معناه أنها تخدع أهلها وصف الفاعل باسم المصدر (ثالثها) أن تكون وصفا للمفعول كما قيل ضرب الأمير أي مضروبه (اللغة الثانية) ضم الخاء ، وإسكان الدال أي أنها تخدع لأن أحد الفريقين إذا خدع صاحبه فيها فكأنها هي خدعت .

                                                            (الثالثة) ضم الخاء وفتح الدال أي أنها تخدع أهلها ، وتمنيهم الظفر أبدا ، وقد ينقلب بهم الحال لغيرها كما يقال رجل لعبة وضحكة للذي يكثر اللعب والضحك ، وحكى فيه الحافظ المنذري في حواشي السنن رابعة ، وهي فتحهما فقال : ومن فتحهما جميعا كان جمع خادع يعني أن أهلها بهذه الصفة فلا تطمئن إليهم كأنه قال أهل الحرب خدعة ثم حذف المضاف قال : وأصل الخدع إظهار أمر ، وإضمار خلافه ، ويقال خدع الريق فسد فكأن الخداع يفسد تدبير المخدوع ، ويفل رأيه ، وقيل الخدعة من خدع الدهر إذا تلون انتهى .



                                                            (الثالثة) فيه تحريض على الخداع في الحرب ، وأنه متى لم يفعل ذلك خدعه خصمه ، وكان [ ص: 215 ] ذلك سببا لانتكاس الأمر عليه فلا يهمل خديعة غريمه فإنه إن لم يخدعه خدعه هو قال النووي ، واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل انتهى .

                                                            والحكمة في الإتيان بالتاء الدالة على الوحدة ، فإن كان الخداع من جهة المسلمين فكأنه حضهم على ذلك ، ولو مرة واحدة ، وإن كان من جهة الكفار فمعناه التحذير من خداعهم ، ولو وقع ذلك منهم مرة واحدة فإنه قد ينشأ عن تلك المرة الهزيمة ، ولو حصل الظفر قبلها ألف مرة فلا ينبغي التهاون بذلك لما ينشأ عنه من المفسدة ، ولو قل الخداع من العدو ، والله أعلم .



                                                            (الرابعة) بوب عليه الترمذي باب ما جاء في الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب ، وليس في هذا الحديث ذكر الكذب ، فإن أريد المعاريض والتورية فلا تخلو الخديعة من ذلك ، وإن أريد الكذب الصريح فقد تخلو الخديعة عنه فمن المعاريض ما في سنن أبي داود عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، وكان يقول الحرب خدعة ، وما في سنن النسائي عن مسروق قال سمعت علي بن أبي طالب يقول في شيء صدق الله ورسوله (قلت) هذا شيء سمعته ، فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة ، وقد ورد الترخيص في الكذب في الحرب ، رواه الأئمة الخمسة من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال ليس بالكاذب من أصلح بين الناس الحديث وفيه ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث في الحرب والإصلاح الحديث ، وروى الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل الكذب إلا في ثلاث تحدثة الرجل امرأته ليرضيها ، والكذب في الحرب ، والكذب ليصلح بين الناس ، وقال محمد بن جرير الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل ، وقال النووي الظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب لكن الاقتصار على التعريض أفضل ، والله أعلم .



                                                            (الخامسة) فيه الإشارة إلى استعمال الرأي في الحروب ، ولا شك في احتياج المحارب إلى الرأي والشجاعة ، وإن احتياجه إلى الرأي أشد من احتياجه إلى الشجاعة ، ولهذا اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم هنا على [ ص: 216 ] ما يشير إليه فهو كقوله الحج عرفة .

                                                            والندم توبة ، وقال الشاعر

                                                            الـــرأي قبـــل شـــجاعة الشــجعان هــــو أول وهــــي المحــــل الثـــاني فـــإذا همـــا اجتمعـــا لنفس مــرة
                                                            بلغـــت مـــن العليـــاء كــل مكــان

                                                            .



                                                            (السادسة) قال أبو العباس القرطبي بعد تقريره ما تقدم إن معناه الحض على استعمال الخداع في الحرب ، ولو مرة واحدة ويحتمل أن يكون معناه أن الحرب تتراءى لأخف الناس بالصورة المستحسنة تم تتجلى عن صورة مستقبحة كما قال الشاعر :

                                                            الحــــرب أول مـــا تكـــون فتيـــة تســــعى ببزتهــــا لكـــل جـــهول

                                                            ، وقال الحرب لا تبقي لجماحها النخيل والمراح . وفائدة الحديث على هذا ما قاله في الحديث الآخر لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية انتهى .

                                                            وهذا احتمال بعيد لأنه يفهم ذم الحرب ، والحديث إنما سبق في معرض مدحها والتحيل فيها بالمخادعة فإن صح هذا الاحتمال في ذمها فذاك في الفتن والحروب بين المسلمين الناشئة عن التنافس في الدنيا ، والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية