الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء : 29] . قالت الأنصار : ما بالمدينة مال أعز من الطعام . كانوا يتحرجون أن يأكلوا مع الأعمى، يقولون : إنه لا يبصر موضع الطعام . وكانوا يتحرجون الأكل مع الأعرج، يقولون : الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم . ويتحرجون الأكل مع المريض، يقولون : لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح . وكانوا يتحرجون أن [ ص: 113 ] يأكلوا في بيوت أقربائهم، فنزلت : ليس على الأعمى حرج يعني : في الأكل مع الأعمى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مقسم قال : كانوا يكرهون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض؛ لأنهم لا ينالون كما ينال الصحيح، فنزلت : ليس على الأعمى حرج الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وآدم، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن مجاهد قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج والمريض إلى بيت أبيه، أو بيت أخيه، أو بيت أخته، أو بيت عمه، أو بيت عمته، أو بيت خاله، أو بيت خالته، فكان الزمنى يتحرجون من ذلك، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم . فنزلت هذه الآية رخصة لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن النجار ، عن عائشة قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه فكانوا [ ص: 114 ] يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء . فأنزل الله : ولا على أنفسكم أن تأكلوا إلى قوله : أو ما ملكتم مفاتحه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله، وابن المسيب، أنه كان رجال من أهل العلم يحدثون : إنما نزلت هذه الآية في أن المسلمين كانوا يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، فيعطون مفاتيحهم أمناءهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا . فيقول الذين استودعوهم المفاتيح : والله ما يحل لنا مما في بيوتهم شيء، وإنما أحلوه لنا حتى يرجعوا إلينا، وإنها الأمانة اؤتمنا عليها . فلم يزالوا على ذلك حتى أنزل الله هذه الآية، فطابت نفوسهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء : 29] . قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا [ ص: 115 ] بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد . فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله : ليس على الأعمى حرج إلى قوله : أو ما ملكتم مفاتحه وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر، ويشرب اللبن، وكانوا أيضا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم فقال : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : كان أهل المدينة -قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم- لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ولا أعرج؛ لأن الأعمى لا يبصر طيب الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : خرج الحارث غازيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف على أهله خالد بن زيد، فتحرج أن يأكل من طعامه، [ ص: 116 ] وكان مجهودا، فنزلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في "مراسيله"، وابن جرير ، والبيهقي ، عن الزهري أنه سئل عن قوله : ليس على الأعمى حرج الآية . ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هنا؟ فقال : أخبرنا عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا . وكانوا يتحرجون من ذلك، يقولون : لا ندخلها وهم غيب . فأنزلت هذه الآية رخصة لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة، يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجل يسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله : ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 117 ] وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة ، وأبي صالح قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون معه حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصة لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : أو صديقكم قال : إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه، لم يكن بذلك بأس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : أو صديقكم قال : هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوله ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع، فسوغه الله أن يأكله . قال : وذهب ذلك، اليوم البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا، فقد ذهب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية