الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 336 ] ( فلا أقسم بالخنس ( 15 ) الجواري الكنس ( 16 ) والليل إذا عسعس ( 17 ) والصبح إذا تنفس ( 18 ) إنه لقول رسول كريم ( 19 ) ذي قوة عند ذي العرش مكين ( 20 ) مطاع ثم أمين ( 21 ) وما صاحبكم بمجنون ( 22 ) ولقد رآه بالأفق المبين ( 23 ) وما هو على الغيب بضنين ( 24 ) وما هو بقول شيطان رجيم ( 25 ) فأين تذهبون ( 26 ) إن هو إلا ذكر للعالمين ( 27 ) لمن شاء منكم أن يستقيم ( 28 ) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ( 29 ) )

روى مسلم في صحيحه ، والنسائي في تفسيره عند هذه الآية من حديث مسعر بن كدام عن الوليد بن سريع عن عمرو بن حريث قال صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فسمعته يقرأ ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ) .

ورواه النسائي عن بندار عن غندر عن شعبة عن الحجاج بن عاصم عن أبي الأسود عن عمرو بن حريث به نحوه .

قال ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق الثوري عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ) قال هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل

وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن سماك بن حرب سمعت خالد بن عرعرة سمعت عليا وسئل عن ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ) فقال هي النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل .

وحدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن خالد عن علي قال هي النجوم

وهذا إسناد جيد صحيح إلى خالد بن عرعرة وهو السهمي الكوفي قال أبو حاتم الرازي روى عن علي وروى عنه سماك والقاسم بن عوف الشيباني ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا والله أعلم

وروى يونس عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي أنها النجوم . رواه ابن أبي حاتم وكذا روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم أنها النجوم

وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن بكر بن عبد الله في قوله ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ) قال هي النجوم الدراري التي تجري تستقبل المشرق .

[ ص: 337 ]

وقال بعض الأئمة إنما قيل للنجوم الخنس " أي في حال طلوعها ثم هي جوار في فلكها وفي حال غيبوبتها يقال لها كنس من قول العرب أوى الظبي إلى كناسة إذا تغيب فيه

وقال الأعمش عن إبراهيم قال : قال عبد الله ( فلا أقسم بالخنس ) قال بقر الوحش وكذا قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عبد الله ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ) ما هي يا عمرو قلت البقر . قال وأنا أرى ذلك

وكذا روى يونس عن أبي إسحاق عن أبيه

وقال أبو داود الطيالسي عن عمرو عن أبيه ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ( الجواري الكنس ) قال البقر [ الوحش تكنس إلى الظل وكذا قال سعيد بن جبير

وقال العوفي عن ابن عباس هي الظباء وكذا قال سعيد أيضا ومجاهد والضحاك

وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد هي الظباء والبقر

وقال ابن جرير حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم ومجاهد أنهما تذاكرا هذه الآية ( فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ) فقال إبراهيم لمجاهد قل فيها بما سمعت قال فقال مجاهد كنا نسمع فيها شيئا وناس يقولون إنها النجوم قال فقال إبراهيم قل فيها بما سمعت قال فقال مجاهد كنا نسمع أنها بقر الوحش حين تكنس في حجرتها قال فقال إبراهيم إنهم يكذبون على علي ، هذا كما رووا عن علي أنه ضمن الأسفل الأعلى والأعلى الأسفل

وتوقف ابن جرير في قوله ( الخنس الجواري الكنس ) هل هو النجوم أو الظباء وبقر الوحش ؟ قال ويحتمل أن يكون الجميع مرادا

وقوله ( والليل إذا عسعس ) فيه قولان

أحدهما إقباله بظلامه قال مجاهد أظلم . وقال سعيد بن جبير إذا نشأ وقال الحسن البصري إذا غشى الناس وكذا قال عطية العوفي

وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس ( إذا عسعس ) إذا أدبر وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وكذا قال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ( إذا عسعس ) أي إذا ذهب فتولى

وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري سمع أبا عبد الرحمن السلمي قال خرج علينا علي رضي الله عنه حين ثوب المثوب بصلاة الصبح فقال أين السائلون عن الوتر ( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ) ؟ هذا حين أدبر حسن

[ ص: 338 ] وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله ( إذا عسعس ) إذا أدبر قال لقوله ( والصبح إذا تنفس ) أي : أضاء واستشهد بقول الشاعر أيضا :


حتى إذا الصبح له تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا



أي أدبر وعندي أن المراد بقوله ( عسعس ) إذا أقبل وإن كان يصح استعماله في الإدبار لكن الإقبال هاهنا أنسب كأنه أقسم تعالى بالليل وظلامه إذا أقبل وبالفجر وضيائه إذا أشرق كما قال ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ) الليل 1 2 وقال ( والضحى والليل إذا سجى ) الضحى 1 ، 2 وقال ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ) الأنعام : 96 وغير ذلك من الآيات

وقال كثير من علماء الأصول إن لفظة " عسعس تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما والله أعلم

قال ابن جرير وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يزعم أن عسعس دنا من أوله وأظلم وقال الفراء كان أبو البلاد النحوي ينشد بيتا :


عسعس حتى لو يشاء ادنا     كان له من ضوئه مقبس



يريد لو يشاء إذ دنا أدغم الذال في الدال وقال الفراء وكانوا يرون أن هذا البيت مصنوع .

وقوله ( والصبح إذا تنفس ) قال الضحاك إذا طلع وقال قتادة إذا أضاء وأقبل وقال سعيد بن جبير إذا نشأ وهو المروي عن علي رضي الله عنه

وقال ابن جرير يعني وضوء النهار إذا أقبل وتبين

وقوله ( إنه لقول رسول كريم ) يعني أن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر وهو جبريل عليه الصلاة والسلام قاله ابن عباس والشعبي وميمون بن مهران والحسن وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم

( ذي قوة ) كقوله ( علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى ] ) النجم 5 6 ] أي شديد الخلق شديد البطش والفعل ( عند ذي العرش مكين ) أي له مكانة عند الله عز وجل ومنزلة رفيعة

قال أبو صالح في قوله ( عند ذي العرش مكين ) قال : جبريل يدخل في سبعين حجابا من [ ص: 339 ] نور بغير إذن ( مطاع ثم ) أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى

قال قتادة ( مطاع ثم ) أي في السموات ، يعني ليس هو من أفناد الملائكة بل هو من السادة والأشراف معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة

وقوله : ( أمين ) صفة لجبريل بالأمانة وهذا عظيم جدا أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله ( وما صاحبكم بمجنون )

قال الشعبي وميمون بن مهران وأبو صالح ومن تقدم ذكرهم المراد بقوله ( وما صاحبكم بمجنون ) يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم

وقوله تعالى ( ولقد رآه بالأفق المبين ) يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح ( بالأفق المبين ) أي : البين وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء وهي المذكورة في قوله ( علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ) النجم 5 - 10 كما تقدم تفسير ذلك وتقريره والدليل أن المراد بذلك جبريل عليه السلام . والظاهر والله أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى وأما الثانية وهي المذكورة في قوله ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ) النجم 13 - 16 فتلك إنما ذكرت في سورة النجم وقد نزلت بعد سورة الإسراء

وقوله ( وما هو على الغيب بضنين ) أي وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين أي : بمتهم ومنهم من قرأ ذلك بالضاد أي : ببخيل بل يبذله لكل أحد

قال سفيان بن عيينة ظنين وضنين سواء أي ما هو بكاذب وما هو بفاجر والظنين المتهم والضنين : البخيل

وقال قتادة كان القرآن غيبا فأنزله الله على محمد فما ضن به على الناس بل بلغه ونشره وبذله لكل من أراده وكذا قال عكرمة وابن زيد وغير واحد واختار ابن جرير قراءة الضاد .

قلت وكلاهما متواتر ومعناه صحيح كما تقدم

وقوله ( وما هو بقول شيطان رجيم ) أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم أي لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له كما قال ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون ) الشعراء 210 - 212

[ ص: 340 ]

وقوله ( فأين تذهبون ) ؟ أي : فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه جاء من عند الله عز وجل كما قال الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال : ويحكم أين يذهب بعقولكم ؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إل أي من إله

وقال قتادة ( فأين تذهبون ) أي عن كتاب الله وعن طاعته .

وقوله ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) أي من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه منجاة له وهداية ولا هداية فيما سواه ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) أي ليست المشيئة موكولة إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل بل ذلك كله تابع لمشيئة الله عز وجل رب العالمين

قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى لما نزلت هذه الآية ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) قال أبو جهل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) .

آخر تفسير سورة التكوير ولله الحمد [ والمنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية