الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : ( ثم آتينا موسى الكتاب ) ، ثم قل بعد ذلك يا محمد : آتى ربك موسى الكتاب فترك ذكر " قل " ، إذ كان قد تقدم في أول القصة ما يدل على أنه مراد فيها ، وذلك قوله : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) ، فقص ما حرم عليهم وأحل ، ثم قال : ثم قل : " آتينا موسى " ، فحذف " قل " لدلالة قوله : " قل " عليه ، وأنه مراد في الكلام . [ ص: 233 ]

وإنما قلنا : ذلك مراد في الكلام ؛ لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بعث بعد موسى بدهر طويل ، وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على من أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه . ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدا بتلاوة هذه الآيات على من أمر بتلاوتها عليه . و " ثم " في كلام العرب حرف يدل على أن ما بعده من الكلام والخبر ، بعد الذي قبلها .

ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( تماما على الذي أحسن ) ، فقال بعضهم : معناه : تماما على المحسنين .

ذكر من قال ذلك :

14171 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تماما على الذي أحسن ) ، قال : على المؤمنين .

14172 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( تماما على الذي أحسن ) ، المؤمنين والمحسنين .

وكأن مجاهدا وجه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جل ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده .

فإن قال قائل : فكيف جاز أن يقال : ( على الذي أحسن ) ، فيوحد " الذي " ، والتأويل على الذين أحسنوا ؟

قيل : إن العرب تفعل ذلك خاصة في " الذي " وفي " الألف واللام " ، إذا أرادت به الكل والجميع ، كما قال جل ثناؤه : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) ، [ سورة العصر : 1 ، 2 ] ، وكما قالوا : " كثر الدرهم في أيدي الناس " . [ ص: 234 ]

وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود : أنه كان يقرأ ذلك : " تماما على الذين أحسنوا " ، وذلك من قراءته كذلك ، يؤيد قول مجاهد .

وإذا كان المعنى كذلك ، كان قوله : " أحسن " ، فعلا ماضيا ، فيكون نصبه لذلك .

وقد يجوز أن يكون " أحسن " في موضع خفض ، غير أنه نصب إذ كان " أفعل " ، و " أفعل " ، لا يجري في كلامها .

فإن قيل : فبأي شيء خفض ؟

قيل : ردا على " الذي " ، إذ لم يظهر له ما يرفعه فيكون تأويل الكلام حينئذ : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي هو أحسن ، ثم حذف " هو " ، وجاور " أحسن " " الذي " ، فعرب بتعريبه ، إذ كان كالمعرفة من أجل أن " الألف واللام " لا يدخلانه ، " والذي " مثله ، كما تقول العرب : " مررت بالذي خير منك ، وشر منك " ، كما قال الراجز :


إن الزبيري الذي مثل الحلم مسى بأسلابكم أهل العلم



[ ص: 235 ] فأتبع " مثل " " الذي " ، في الإعراب . ومن قال ذلك ، لم يقل : مررت " بالذي عالم " ؛ لأن " عالما " نكرة ، " والذي " معرفة ، ولا تتبع نكرة معرفة .

وقال آخرون : معنى ذلك : تماما على الذي أحسن " ، موسى ، فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه .

ذكر من قال ذلك :

14173 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ) ، فيما أعطاه الله .

14174 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ) ، قال : من أحسن في الدنيا ، تمم الله له ذلك في الآخرة .

14175 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ) ، يقول : من أحسن في الدنيا ، تمت عليه كرامة الله في الآخرة .

وعلى هذا التأويل الذي تأوله الربيع ، يكون " أحسن " ، نصبا ؛ لأنه فعل ماض ، و " الذي " بمعنى " ما " وكأن الكلام حينئذ : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على ما أحسن موسى أي : آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة ، تماما على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته . [ ص: 236 ]

وقال آخرون في ذلك : معناه : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم .

ذكر من قال ذلك :

14176 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ) ، قال : تماما من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام ، وآتاهم ذلك الكتاب تماما ، لنعمته عليه وإحسانه .

" وأحسن " على هذا التأويل أيضا ، في موضع نصب ، على أنه فعل ماض ، " والذي " على هذا القول والقول الذي قاله الربيع ، بمعنى : " ما " .

وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك : " تماما على الذي أحسن " رفعا بتأويل : على الذي هو أحسن .

14177 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم بن سلام قال : حدثنا الحجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء ، عن يحيى بن يعمر .

قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، وإن كان لها في العربية وجه صحيح ، لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : معناه : ثم آتينا موسى الكتاب تماما لنعمنا عنده ، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهر معانيه في الكلام ، وأن إيتاء موسى كتابه نعمة من الله عليه ومنة عظيمة . فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحسن طاعة . [ ص: 237 ]

ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد ، كان الكلام : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسنا أو : ثم آتى الله موسى الكتاب تماما على الذي أحسن .

وفي وصفه جل ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب ، ثم صرفه الخبر بقوله : " أحسن " ، إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين الدليل الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد .

وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه " الذي " إلى معنى الجميع ، فلا دليل في الكلام يدل على صحة ما قال من ذلك . بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه . وإذا تنوزع في تأويل الكلام ، كان أولى معانيه به أغلبه على الظاهر ، إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليل واضح على أنه معني به غير ذلك .

وأما قوله : ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فإنه يعني : وتبيينا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به .

فتأويل الكلام إذا : ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده وأيادينا قبله ، تتم به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربه وقيامه بما كلفه من شرائع دينه ، وتبيينا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم ، كما : -

14178 - حدثني بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فيه حلاله وحرامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية