الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ( 160 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : من وافى ربه يوم القيامة في موقف الحساب ، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا ، بالتوبة والإيمان والإقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته ، وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال : من جاء بها فله عشر أمثالها .

ويعني بقوله : ( فله عشر أمثالها ) ، فله عشر حسنات أمثال حسنته التي [ ص: 275 ] جاء بها ( ومن جاء بالسيئة ) ، يقول : ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدين الحق والكفر بالله ، فلا يجزى إلا ما ساءه من الجزاء ، كما وافى الله به من عمله السيئ ( وهم لا يظلمون ) ، يقول : ولا يظلم الله الفريقين ، لا فريق الإحسان ، ولا فريق الإساءة ، بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان ، ولكنه يجازي كلا الفريقين من الجزاء ما هو له ؛ لأنه جل ثناؤه حكيم لا يضع شيئا إلا في موضعه الذي يستحق أن يضعه فيه ، ولا يجازي أحدا إلا بما يستحق من الجزاء .

وقد دللنا فيما مضى على أن معنى " الظلم " ، وضع الشيء في غير موضعه ، بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما ذكرت ، من أن معنى " الحسنة " في هذا الموضع : الإيمان بالله ، والإقرار بوحدانيته ، والتصديق برسوله " والسيئة " فيه : الشرك به ، والتكذيب لرسوله أفللإيمان أمثال فيجازى بها المؤمن ؟ وإن كان له مثل ، فكيف يجازى به ، و " الإيمان " ، إنما هو عندك قول وعمل ، والجزاء من الله لعباده عليه الكرامة في الآخرة ، والإنعام عليه بما أعد لأهل كرامته من النعيم في دار الخلود ، وذلك أعيان ترى وتعاين وتحس ويلتذ بها ، لا قول يسمع ، ولا كسب جوارح ؟

قيل : إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معناه : من جاء بالحسنة فوافى الله بها له مطيعا ، فإن له من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها .

فإن قال : قلت : فهل لقول " لا إله إلا الله" من الحسنات مثل ؟ [ ص: 276 ]

قيل : له مثل هو غيره ، [ ولكن له مثل هو قول لا إله إلا الله ] ، وذلك هو الذي وعد الله جل ثناؤه من أتاه به أن يجازيه عليه من الثواب بمثل عشرة أضعاف ما يستحقه قائله . وكذلك ذلك فيمن جاء بالسيئة التي هي الشرك ، إلا أنه لا يجازى صاحبها عليها إلا ما يستحقه عليها من غير إضعافه عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

14271 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال رجل من القوم : فإن " لا إله إلا الله" حسنة ؟ قال : نعم ، أفضل الحسنات .

14272 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش والحسن بن عبيد الله ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله : ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله .

14273 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا حفص قال : حدثنا الأعمش والحسن بن عبيد الله ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله قال : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : من جاء بلا إله إلا الله . قال : ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال : الشرك .

14274 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن جامع بن شداد ، عن الأسود بن هلال ، عن عبد الله : ( من [ ص: 277 ] جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله .

14275 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا معاوية بن عمرو المعني ، عن زائدة ، عن عاصم ، عن شقيق : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله ، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال : الشرك .

14276 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد وعن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد والقاسم بن أبي بزة : ( من جاء بالحسنة ) ، قالوا : لا إله إلا الله ، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قالوا : بالشرك وبالكفر .

14277 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن نمير وابن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال : الشرك .

14278 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح قال : حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال : لا إله إلا الله .

14279 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن أبي المحجل ، عن إبراهيم : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال : الشرك .

14280 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان ، عن أبي المحجل ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، مثله .

14281 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي المحجل ، عن إبراهيم ، مثله . [ ص: 278 ]

14282 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن أبي المحجل ، عن أبي معشر قال : كان إبراهيم يحلف بالله ما يستثني : أن ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، من جاء بالشرك .

14283 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : كلمة الإخلاص ، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) قال : بالشرك .

14284 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي وحدثنا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو نعيم جميعا ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي صالح : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال : الشرك .

14285 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن نمير ، عن عثمان بن الأسود ، عن القاسم بن أبي بزة : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال : الكفر .

14286 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله .

14287 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن أشعث ، عن الحسن : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله .

14288 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : ( من جاء بالحسنة ) ، قال : لا إله إلا الله .

14289 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

14290 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( من جاء بالحسنة ) ، [ ص: 279 ] يقول : من جاء بلا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال : الشرك .

14291 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ، ذكر لناأن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : الأعمال ستة : موجبة وموجبة ، ومضعفة ومضعفة ، ومثل ومثل . فأما الموجبتان : فمن لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقي الله مشركا به دخل النار . وأما المضعف والمضعف : فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمائة ضعف ، ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها . وأما مثل ومثل : فإذا هم العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، وإذا هم بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيئة .

14292 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا الأعمش ، عن شمر بن عطية ، عن شيخ من التيم ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، علمني عملا يقربني إلى الجنة ويباعدني من النار . قال : إذا عملت سيئة فاعمل حسنة ، فإنها عشر أمثالها . قال : قلت : يا رسول الله ، " لا إله إلا الله" من الحسنات ؟ قال : هي أحسن الحسنات .

وقال قوم : عنى بهذه الآية الأعراب ، فأما المهاجرون فإن حسناتهم سبعمائة ضعف أو أكثر .

ذكر من قال ذلك :

14293 - حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري في قوله : [ ص: 280 ] ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال : هذه للأعراب ، وللمهاجرين سبعمائة .

14294 - حدثنا محمد أبو نشيط بن هارون الحربي قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن عبد الله بن عمر قال : نزلت هذه الآية في الأعراب : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال : قال رجل : فما للمهاجرين ؟ قال : ما هو أعظم من ذلك : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) ، [ سورة النساء : 40 ] وإذا قال الله لشيء : " عظيم " ، فهو عظيم .

14295 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع قال : نزلت هذه الآية : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، وهم يصومون ثلاثة أيام من الشهر ، ويؤدون عشر أموالهم . ثم نزلت الفرائض بعد ذلك : صوم رمضان والزكاة .

فإن قال قائل : وكيف قيل " عشر أمثالها " ، فأضيف " العشر " إلى " الأمثال " ، وهي " الأمثال " ؟ وهل يضاف الشيء إلى نفسه ؟ [ ص: 281 ]

قيل : أضيفت إليها لأنه مراد بها : فله عشر حسنات أمثالها ، ف " الأمثال " حلت محل المفسر ، وأضيف " العشر " إليها ، كما يقال : " عندي عشر نسوة " ، فلأنه أريد بالأمثال مقامها ، فقيل : " عشر أمثالها " ، فأخرج " العشر " مخرج عدد الحسنات ، و " المثل " مذكر لا مؤنث ، ولكنها لما وضعت موضع الحسنات ، وكان " المثل " يقع للمذكر والمؤنث ، فجعلت خلفا منها ، فعل بها ما ذكرت . ومن قال : " عندي عشر أمثالها " ، لم يقل : " عندي عشر صالحات " ؛ لأن " الصالحات " فعل لا يعد ، وإنما تعد الأسماء . و " المثل " اسم ، ولذلك جاز العدد به .

وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك : " فله عشر " بالتنوين ، " أمثالها " بالرفع . وذلك على وجه صحيح في العربية ، غير أن القرأة في الأمصار على خلافها ، فلا نستجيز خلافها فيما هي عليه مجمعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية