الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 4363 ] واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا .

                                                          الجناح هنا هو الحياطة والرعاية، وشبهت هذه المعاني بالجناح الذي يكون به قوة الطائر، وإضافة الذل إليه لتكون الرعاية ذلا لهما، وتواضعا من غير استكبار، وإن ذلك التطامن والانكسار من الرحمة لا من الذلة، وكان خفض جناح من ذل، لا من الذلة، بل من الرحمة، وفرق بين ذل الرحمة، فهو عطف ورفق وتطامن، وذل الاستخذاء والمذلة، فهو ذل خنوع، وضعف من غير قوة، وإن هذا التعبير أعلى ما يمكن من تعبير العطف والرحمة، ولكنه كلام الرحمن الرحيم، وإن الله تعالى طلب من عبده أن يقول داعيا لهما بالرحمة في كبرهما، فيقول تعالى: وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا أي إنك لا تملك أن تصنع لهما ما صنعاه وأنت صغير، فقد حدبا عليك في محبة يريدان بقاءك وأنت لا تملك هذا فتملك ما يقبله الله منك، وهو الكريم اللطيف الخبير، وهو الدعاء لهما بالرحمة مخلصا طيب النفس راضيا لعشرتهما مهما تكن حالهما من ضعف.

                                                          ولقد كتب الزمخشري صفحة في إكرام الأبوين ننقلها بحروفها لجمال لفظها، وكريم معناها يقول رضي الله عنه -: «ولقد كرر الله تعالى في كتابه الوصية بالوالدين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» ، وروي «يفعل البار بوالديه ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة» ، وروى سعيد بن المسيب أن البار لا يموت ميتة سوء، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم -: «إن أبوي بلغا من الكبر أن ألي منهما ما توليا مني في الصغر فهل قضيتهما؟ قال: لا، إنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما ».

                                                          [ ص: 4364 ] وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به، فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوي، وفقيرا وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، ويبخل علي بماله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم -، وقال: «ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى»، ثم قال للولد: «أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك» ، وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال صلى الله عليه وسلم -: «لم تكن سيئة الخلق حيث حملتك تسعة أشهر»، قال: إنها سيئة الخلق، قال الرسول الكريم: «لم تكن كذلك حتى أرضعتك حولين»، قال: إنها سيئة الخلق، قال صلى الله عليه وسلم -: «لم تكن كذلك حين سهرت لك ليلها، وأظمأت نهارها»، قال: لقد جازيتها. قال: «ما فعلت؟»، قال: حججت بها على عاتقي، قال صلى الله عليه وسلم -: «ما جزيتها». انتهى كلام الزمخشري في الكشاف.

                                                          وقال صلى الله عليه وسلم -: «إياكم وعقوق الوالدين، فإن الجنة توجد ريحها مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها، لا عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان، ولا جار إزاره. . .».

                                                          وأن بر الأبوين أمر مستتر خفي يظهر في العمل، فهو إخلاص وفاء وإيمان بالحق، ووفاء وإكرام، وهو دليل على صلاح النفوس، وقد قال تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية