الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 580 ] [ ص: 581 ] الفصل الثاني

                        في حجية القياس

                        اعلم أنه قد وقع الاتفاق على أنه حجة في الأمور الدنيوية .

                        قال الفخر الرازي : كما في الأدوية ، والأغذية .

                        وكذلك اتفقوا على حجية القياس الصادر منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإنما وقع الخلاف في القياس الشرعي : فذهب الجمهور من الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء ، والمتكلمين إلى ( أن القياس الشرعي ) أصل من أصول الشريعة ، يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع .

                        قال في المحصول : اختلف الناس في القياس الشرعي : فقالت طائفة : العقل يقتضي جواز التعبد به في الجملة ، وقالت طائفة : العقل يقتضي المنع من التعبد به ، والأولون قسمان ، منهم من قال : وقع التعبد به ، ومنهم من قال : لم يقع .

                        أما من اعترف بوقوع التعبد به ، فقد اتفقوا على أن السمع دل عليه ، ثم اختلفوا في ثلاثة مواضع :

                        ( الأول ) : أنه هل في العقل ما يدل عليه ، فقال القفال منا ، وأبو الحسين البصري ، من المعتزلة : العقل يدل على وجوب العمل به ، وأما الباقون منا ومن المعتزلة فقد أنكروا ذلك .

                        ( والثاني ) : أن أبا الحسين البصري زعم أن دلالة الدلائل السمعية عليه ظنية ، والباقون قالوا : قطعية .

                        ( والثالث ) : أن القاساني والنهرواني ذهبا إلى العمل بالقياس في صورتين :

                        [ ص: 582 ] ( إحداهما ) : إذا كانت العلة منصوصة بصريح اللفظ ، أو بإيمائه .

                        ( والصورة الثانية ) : كقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف ، وأما جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقيسة .

                        وأما القائلون بأن التعبد لم يقع به ، فمنهم من قال : لم يوجد في السمع ما يدل على وقوع التعبد به ، فوجب الامتناع من العمل به .

                        ومنهم من لم يقنع بذلك ، بل تمسك في نفيه بالكتاب ، والسنة ، وإجماع الصحابة ، وإجماع العترة .

                        ( وأما القسم الثاني ) : وهم الذين قالوا : بأن العقل يقتضي المنع من التعبد به ، فهم فريقان :

                        ( أحدهما ) : خصص ذلك المنع بشرعنا ، وقال : لأن مبنى شرعنا الجمع بين المختلفات ، والفرق بين المتماثلات ، وذلك يمنع من القياس ، وهو قول النظام ، والفريق الثاني : الذين قالوا يمتنع ورود التعبد به في كل الشرائع انتهى .

                        قال الأستاذ أبو منصور : المثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب :

                        ( أحدها ) : ثبوته في العقليات ، والشرعيات ، وهو قول أصحابنا من الفقهاء ، والمتكلمين ، وأكثر المعتزلة .

                        ( والثاني ) : ثبوته في العقليات ، دون الشرعيات ، وبه قال جماعة من أهل الظاهر .

                        ( والثالث ) : نفيه في العلوم العقلية ، وثبوته في الأحكام الشرعية ، التي ليس فيها نص ، ولا إجماع ، وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية .

                        ( والرابع ) : نفيه في العقليات والشرعيات .

                        وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني انتهى .

                        والمثبتون له اختلفوا أيضا .

                        قال الأكثرون : هو دليل بالشرع .

                        وقال القفال وأبو الحسين البصري : هو دليل بالعقل ، والأدلة السمعية وردت مؤكدة له .

                        [ ص: 583 ] وقال الدقاق : يجب العمل به بالعقل والشرع ، وجزم به ابن قدامة في الروضة ، وجعله مذهب أحمد بن حنبل لقوله : لا يستغني أحد عن القياس . قال : وذهب أهل الظاهر ، والنظام إلى امتناعه عقلا وشرعا ، وإليه ميل أحمد بن حنبل لقوله : يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس .

                        وقد تأوله القاضي أبو يعلى على ما إذا كان القياس مع وجود النص; لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار .

                        ثم اختلف القائلون به أيضا اختلافا آخر ، وهو دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية ، فذهب الأكثرون إلى الأول ، وذهب أبو الحسين والآمدي إلى الثاني .

                        وأما المنكرون للقياس ، فأول من باح بإنكار " النظام " وتابعه قوم من المعتزلة ، كجعفر بن حرب ، وجعفر بن حبشة ومحمد بن عبد الله الإسكافي وتابعهم على نفيه في الأحكام داود الظاهري .

                        قال أبو القاسم البغدادي فيما حكاه عنه ابن عبد البر في كتاب جامع العلم ما علمت أحدا سبق النظام إلى القول بنفي القياس .

                        قال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم أيضا : " لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة في نفي القياس في التوحيد ، وإثباته في الأحكام إلا داود ، فإنه نفاه فيهما جميعا .

                        قال : ومنهم من أثبته في التوحيد ، ونفاه في الأحكام .

                        [ ص: 584 ] وحكى القاضي أبو الطيب الطبري عن داود النهرواني ، والمغربي والقاساني : أن القياس محرم بالشرع .

                        قال الأستاذ أبو منصور : وأما داود فزعم أنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن ، أو السنة ، أو معدول عنه بفحوى النص ودليله ، وذلك يغني عن القياس .

                        قال ابن القطان : ذهب داود وأتباعه إلى أن القياس في دين الله باطل ، ولا يجوز القول به . قال ابن حزم في الأحكام : ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس جملة ، وهو قولنا الذي ندين الله به ، والقول بالعلل باطل انتهى .

                        والحاصل : أن داود الظاهري وأتباعه لا يقولون بالقياس ، ولو كانت العلة منصوصة .

                        ونقل القاضي أبو بكر ، والغزالي ، عن القاساني ، والنهرواني : القول به فيما إذا كانت العلة منصوصة .

                        وقد استدل المانعون من القياس بأدلة عقلية ونقلية ، ولا حاجة لهم إلى الاستدلال ، فالقيام في مقام المنع يكفيهم ، وإيراد الدليل على القائلين بها ، وقد جاءوا بأدلة عقلية لا تقوم بها الحجة ، فلا نطول البحث بذكرها .

                        [ ص: 585 ] وجاءوا بأدلة نقلية ، فقالوا : دل على ثبوت التعبد بالقياس الشرعي الكتاب ، والسنة والإجماع .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية