الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [198] ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين .

                                                                                                                                                                                                                                      ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم قال الراغب: كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج، حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر، وحتى سموا من تولى متجرا في الحج: الداج دون الحاج ; فأباح الله ذلك، وعلى إباحة ذلك، دل [ ص: 496 ] قوله: وأذن في الناس بالحج - إلى قوله -: ليشهدوا منافع لهم وقوله: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى البخاري عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج.

                                                                                                                                                                                                                                      ففي الآية الترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق - وهو المراد بالفضل هنا - ومنه قوله تعالى: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله أي: لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحج رزقا ونفعا وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج..!: فإذا أفضتم من عرفات - أي: دفعتم منها -: فاذكروا الله عند المشعر الحرام أي: بالتلبية، والتهليل، والتكبير، والثناء والدعوات و " المشعر الحرام ": موضع بالمزدلفة. ميمه مفتوحة وقد تكسر، وقد وهم من ظنه جبيلا بها. سمي به لأنه معلم للعبادة وموضع لها - كذا في القاموس وشرحه.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل الفخر عن الواحدي في " البسيط ": إن المشعر الحرام هو المزدلفة. سماها الله تعالى بذلك، لأن الصلاة والمقام والمبيت به، والدعاء عنده. واستقر به الفخر قال: لأن الفاء في قوله: فاذكروا الله إلخ تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 497 ] قال البيضاوي: ويؤيد الأول ما روى جابر: أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة بغلس - ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام. أي: فإنه يدل على تغاير المزدلفة، والمشعر الحرام لمكان مسيره صلى الله عليه وسلم منها إلى المشعر الحرام! وإنما قال: يؤيد لأنه يجوز أن يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل، إما بحذف المضاف، أو بتسمية الجزء باسم الكل - أفاده السيلكوتي.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن القيم في " زاد المعاد " في سياق حجته صلى الله عليه وسلم: فلما غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين، ثم جعل يسير العنق - وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء - فإذا وجد فجوة - وهو المتسع - نص سيره - أي: رفعه فوق ذلك - وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية، حتى أتى المزدلفة فتوضأ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذن، ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال ; فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصل بينهما شيئا، فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا، وذلك قبل طلوع الشمس. انتهى المقصود منه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعض الأئمة: ما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا لأنه مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم، ومندرجا تحت قوله: « خذوا عني مناسككم » فيه أيضا النص القرآني بصيغة الأمر فاذكروا الله عند المشعر الحرام

                                                                                                                                                                                                                                      واذكروه كما هداكم بدلائل الكتاب، أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة! فمفاد التشبيه: التسوية في الحسن والكمال، كما تقول: اخدمه كما أكرمك، [ ص: 498 ] يعني: لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه. وفيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج!: وإن كنتم من قبله أي: من قبل الهدي: لمن الضالين الجاهلين بالإيمان والطاعة. و " إن " هي المخففة، و " اللام " هي الفارقة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية