الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ونفلوا بعيرا .

                                                            التالي السابق


                                                            الحديث الرابع وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيرا أو أحد [ ص: 254 ] عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا . (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه الشيخان ، وأبو داود من هذا الوجه من طريق مالك ، وأخرجه الشيخان من طريق أيوب السختياني ومسلم ، وأبو داود من طريق الليث ، وعبيد الله بن عمر ومسلم من طريق موسى بن عقبة وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عون كلهم عن نافع عن ابن عمر وفي رواية من سوى مالك الجزم بأن سهمانهم بلغت اثني عشر بعيرا وزاد في رواية الليث فلم يغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية عبيد الله بن عمر ، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا .

                                                            وقال أبو داود رواه برد بن سنان عن نافع مثل حديث عبيد الله ، ورواه أيوب عن نافع إلا أنه قال ونفلنا بعيرا بعيرا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أبو داود من رواية محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت معها فأصبنا نعما كثيرة فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرا بعد الخمس ، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ، ولا عاب عليه ما صنع فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله

                                                            ورواه أبو داود أيضا من طريق الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن نافع عن ابن عمر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد ، وانبعثت سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثنا عشر بعيرا اثنا عشر بعيرا ، ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا فكانت سهمانهم ثلاثة عشر ، وفيه قال الوليد حدثت ابن المبارك بهذا الحديث (قلت) وكذا حدثنا أبو فروة عن نافع قال لا تعدل من سميت بمالك هكذا أو نحره يعني مالك بن أنس ، ورواه ابن عبد البر في التمهيد من طريق الوليد بن مسلم ، وفيه أن ذلك الجيش كان أربعة آلاف . (الثانية) هذا الذي وقع في روايتنا من التردد في رواية مالك هل بلغ كل سهم أحد عشر بعيرا أو اثني عشر بعيرا هو كذلك عند جماعة رواه المولى كما حكاه ابن عبد البر لكن رواه أبو داود في سننه عن القعنبي عن مالك [ ص: 255 ] والليث فجمع بين روايتيهما ، وقال فيها فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا .

                                                            وقال ابن عبد البر إنه حمل فيه حديث مالك على حديث الليث لأن القعنبي رواه في الموطإ عن مالك الشك كما على رواية غيره فلا أدري أمن القعنبي جاء هذا حين خلط حديث الليث بحديث مالك أم من أبي داود .

                                                            وقال ابن عبد البر قبل ذلك إن جماعة رواة الموطأ رووه عن مالك على الشك إلا الوليد بن مسلم فإنه روى اثني عشر بدون شك ، قال : وأظنه حمله على رواية شعيب بن حمزة لهذا الحديث فإنه رواه عنه على الجزم باثني عشر فحمل حديث مالك على هذا ، وهو غلط ، قال : وكان سائر أصحاب مالك [ يروي ] اثني عشر بعير شك في ذلك منهم غير مالك .

                                                            (الثالثة) قوله قبل نجد بكسر القاف وفتح الباء أي الذي يلي نجدا قال في المحكم و (قبل) يكون لما ولي الشيء تقول ذهبت قبل السوق ، وقالوا (إلى قبلك مال) أي فيما يليك ، اتسع فيه فأجري مجرى علي إذا قلت لي عليك مال انتهى و ( نجد ) بلاد مرتفعة معروفة بالحجاز قال في الصحاح وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد و السهمان بضم السين جمع سهم ، وهو النصيب ، والمراد أن نصيب كل واحد بلغ هذا العدد كما هو مصرح به في رواية أبي داود ، لا مجموع الأنصباء كما توهمه بعضهم ، وهو غلط كما قاله النووي ، وغيره ، وقوله ونفلوا بعيرا بعيرا أي أعطي كل واحد منهم زيادة على السهم المستحق له .

                                                            وقال النووي قال أهل اللغة والفقهاء الأنفال هي العطايا من الغنيمة غير السهم المستحق بالقسمة ، وأحدها نفل بفتح الفاء على المشهور ، وحكي إسكانها أيضا .

                                                            (الرابعة) اختلفت الرواية في أن هذا القسم والتنفيل هل كان من النبي صلى الله عليه وسلم أو من أمير السرية ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم فظاهر قوله في رواية الليث فلم يغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جميع ذلك كان من أمير السرية ، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم ، وصرح في رواية عبيد الله بن عمر بقوله ، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا ، وظاهره أن قسم الغنيمة فعل أمير السرية ، والتنفيل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية أبي داود من طريق ابن إسحاق عكس ذلك صريحا في أن التنفيل من أمير السرية ، وقسم الغنيمة من النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجح [ ص: 256 ] ابن عبد البر رواية غير ابن إسحاق على روايته قال لأنهم جماعة حفاظ ، وأشار إلى الاختلاف بين روايتي الليث وعبيد الله بن عمر ثم قال : وقد يحتمل أن يكون قوله نفلنا بمعنى أجاز ذلك لنا ، وجزم بذلك النووي في الجمع بينهما فقال : والجمع بينهما أن أمير السرية نفلهم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتجوز نسبته إلى كل منهما .



                                                            (الخامسة) ظاهر هذه الرواية وسائر الروايات المشهورة أن هذه السرية لم تكن قطعة من جيش كبير بل هم جماعة أخرجوا لذلك منفردين فبلغ كل سهم من سهام غنيمتهم اثني عشر بعيرا ، وأعطوا زيادة على سهم الغنيمة على طريق التنفيل كل واحد بعيرا ، وفي رواية شعيب بن أبي حمزة ، وقد تقدم ذكرها من سنن أبي داود أن تلك السرية كانت قطعة من جيش ، وأن كل واحد من ذلك الجيش بلغ سهمه اثني عشر بعيرا ، وتميزت السرية على الجيش بنفل كل واحد منهم بعيرا فبلغ سهمه بالتنفيل ثلاثة عشر بعيرا ، ومشى على هذه الرواية القاضي عياض والنووي واعتمد على ذلك أبو داود وبوب عليه في سننه باب نفل السرية تخرج من العسكر ، وتقدم أن عبد الله بن المبارك أشار إلى تضعيفها بمعارضتها لما هو أصح منها بقوله لا تعدل من سميت من مالك قال ابن عبد البر إنما قال ابن المبارك هذا لمخالفة شعيب بن أبي حمزة مالكا في معناه لأن في رواية مالك أن القسمة والنفل كان كله لها لا يشركها فيه جيش ولا غيره ، وجعل شعيب السرية منبعثة من جيش ، وأن الغنيمة كانت بين أهل العسكر والسرية ، وفضل أهل السرية على الجيش ببعير بعير لموضع شخصهم ونصيبهم قال : ولا يختلف الفقهاء أن كل ما أصابته السرية يشاركهم فيه أهل الجيش ، وما صار للعسكر تشركهم فيه السرية لأن كل واحد منهما رد لصاحبه (قلت) المراد الجيش الخارج إلى بلاد العدو ، والذي انفردت منه هذه السرية لمصلحة أما الجيش القاعد في بلاد المسلمين فلا يشارك السرية الخارجة إلى بلاد العدو وحدها ، والله أعلم .



                                                            (السادسة) فيه إثبات النفل ، والمراد به تخصيص من صنع صنعا جميلا في الحرب انفرد به بشيء من المال، وهذا مجمع عليه ، واختلفوا في محله هل هو من أصل الغنيمة أم من أربعة أخماسها أم من خمس الخمس ، وفي ذلك ثلاثة أقوال للشافعي ، وبكل منها قال جماعة [ ص: 257 ] من العلماء والأصح عند أصحابنا أنه من خمس الخمس ، وحكاه النووي عن سعيد بن المسيب ومالك وأبي حنيفة وآخرين قال : وممن قال إنه من أصل الغنيمة الحسن البصري والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وآخرون قال الأولون : ولو كان التنفيل من أصل الغنيمة لم يكن لهذا التفضيل معنى ولكان الكلام مختل اللفظ ، وقال الخطابي أكثر ما روي من الأخبار في هذا الباب يدل على أن النفل من أصل الغنيمة قال ابن عبد البر ، وفي رواية مالك ، وغيره ما يدل على أن النفل لم يكن من رأس الغنيمة ، وإنما كان من الخمس ، وفي رواية محمد بن إسحاق أن ذلك كان من رأس الغنيمة ، والله أعلم أي ذلك كان انتهى وأجاز النخعي أن تنفل السرية جميع ما غنمته دون باقي الجيش قال النووي : وهو خلاف ما قاله العلماء كافة قال العلماء من أصحابنا وغيرهم لو نفلهم الأمام من أموال بيت المال العتيدة دون الغنيمة جاز ، وما حكمته أولا من أن التنفيل مجمع عليه تبعت فيه النووي لكن قال ابن عبد البر في التمهيد النفل على ثلاثة أوجه (أحدها) أن يريد الإمام تفضيل بعض الجيش بشيء يراه من عنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش فينفله من الخمس لا من رأس الغنيمة (والوجه الثاني) أن الإمام إذا بعث سرية من العسكر فأراد أن ينفلها مما غنمت دون أهل العسكر فحقه أن يخمس ما غنمت ثم يعطي السرية مما بقي بعد الخمس ما شاء ربعا أو ثلثا ، ولا يزيد على الثلث لأنه أقصى ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نفله ، ويقسم الباقي بين جميع أهل العسكر وبين السرية (والوجه الثالث) أن يحرض الإمام وأمير الجيش أهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو ، وينفل جميعهم مما يصير بأيديهم ، ويفتحه الله عليهم .

                                                            (الرابع) أو (الثلث) قبل القسمة تحريضا منه على القتال ، وهذا الوجه كان مالك يكرهه ولا يجيزه ولا يراه ، وكان يقول قتالهم على هذا الوجه إنما يكون للدنيا ، وأجازه جماعة من أهل العلم انتهى .

                                                            وكذا حكى الخطابي عن مالك أنه كان لا يرى النفل ، والمراد به ذكره أولا للترغيب ، وقال الجمهور إن التنفيل يكون في كل غنيمة سواء الأولى وغيرها ، وسواء غنيمة الذهب والفضة ، وغيرهما ، وقال الأوزاعي وجماعة من الشاميين لا ينفل في أول [ ص: 258 ] غنيمة ، ولا ينفل ذهبا ولا فضة .

                                                            (السابعة) قوله ونفلوا بعيرا بعيرا قال النووي معناه أن الذين استحقوا النفل نفلوا بعيرا بعيرا لا أن كل واحد من السرية نفل (قلت) هذا خلاف ظاهر اللفظ فالظاهر أن كل واحد من السرية نفل ، وسببه زيادة عنائه ونفعه بانفراده عن بقية الجيش بتلك السفرة والمشقة .




                                                            الخدمات العلمية