الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( 285 لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين

                                                          * * * [ ص: 1086 ] بهاتين الآيتين الكريمتين ختمت هذه السورة ، وهي أطول سورة في القرآن ، وفيها لب الإسلام ، ومغزاه ومرماه ; فيها بيان أخلاق الناس ، واختلاف تلقيهم للحق الذي يدعون إليه ; فمن مؤمن يذعن للحق بقلبه وجوارحه ، ومن منافق يظهر الإذعان ويبطن الكفر ، ومن معاند مشرك بالله يعرض عن الحق ، وقد لاحت بيناته ، وأضاءت الوجود آياته . ثم بينت أصل الخليقة ، وبها تبيين الطبائع الإنسانية والطبائع الإبليسية ، والإخلاص الملائكي ثم ضرب سبحانه الأمثال وقص سبحانه قصص النبيين : موسى وإبراهيم وإسماعيل ، وبني إسرائيل ، وفيهم يتمثل الإيمان أحيانا ، والطبائع الإنسانية يتسلط عليها الشيطان في أكثر الأحيان ، ويتمثل الطبع الإنساني في قوته وضعفه . ثم ذكر سبحانه أحكاما للجماعة في القتال ، وفي السلام ، في الأسرة وفي المجتمع ، وفي التعاون بين الآحاد بالإنفاق في سبيل الخير وإعلاء كلمة الحق والفضيلة ، ثم في الأسباب المفرقة بين الجماعات كالربا ، ثم في المعاملات الفاضلة التي تحفظ فيها الثقة المتبادلة بين آحاد الجماعات الإسلامية .

                                                          بين سبحانه وتعالى ذلك ، ثم ختم السورة ببيان أمرين :

                                                          أحدهما : أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي امتداد للرسالات السابقة كلها ، وأن لب الدين واحد في كل الرسالات الإلهية .

                                                          وثانيهما : بيان أن كل التكليفات الدينية يسر لا عسر فيها ، وأنها تهذيب روحي وتعاون اجتماعي . وقد بينت الآية الأولى من الآيتين الكريمتين الأمر الأول وبينت الثانية الأمر الثاني ولنبتدئ بالكلام فيما اشتملت عليه الآية الأولى :

                                                          آمن الرسول بما أنـزل إليه من ربه والمؤمنون وفي هذا الجزء من الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى الأصل الأول من أصول الإيمان ، وهو الإيمان بما جاء به وما نزل عليه ; فهو - صلى الله عليه وسلم - ومعه المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليه من ربه - صلى الله عليه وسلم - ، الذي أنشأه ونماه وكمله ، وخصه بالخصال التي تؤهله للرسالة ، وتعده للنبوة : الله أعلم حيث يجعل رسالته

                                                          [ ص: 1087 ] والإيمان بما أنزل الله يشمل الإيمان بالتوحيد المطلق للذات العلية وبكل ما اشتمل عليه القرآن من غيبيات ، والإيمان بكل ما اشتمل عليه القرآن من تكليفات على أنها من عند الله اللطيف الخبير ، سواء أكانت تتعلق بالعبادات أم كانت تتعلق بالمعاملات ; فيؤمن النبي ومعه كل المؤمنين الصادقي الإيمان بأن الله حرم الربا كما حرم الشرك وكما حرم الاعتداء على النفس والمال ، وحرم الزنا كما حرم الخمر والخنزير وأكل الميتة ; وأمر بالزكاة كما أمر بالصلاة ، وأمر بإقامة الحدود كما أمر بالحج ; فالإيمان بما أنزل الله إيمان بكل ما اشتمل عليه الوحي المحمدي . ومن قال إن منه ما يناسب عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يناسب عصرنا فهو لم يؤمن بما أنزل إليه من ربه ، ولم يكن من المؤمنين الذين اقترن إيمانهم بإيمانه - صلى الله عليه وسلم - .

                                                          ونشير هنا إلى معنى سام تفضل به الله على المؤمنين ، وهو أنه قرن إيمان المؤمنين بإيمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمعهما في نسبة واحدة ، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين الذين يصدقون في إيمانهم بما أنزل الله يقاربون في منزلتهم منزلة النبيين . وفي تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع ، وإشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من يؤمن بما أوحي إليه ، وأنه أقوى الناس إيمانا بوجوب طاعة الله ، وأنه أول من أطاع الله ; فكانت نبوته - صلى الله عليه وسلم - تصديقا منه وطاعة .

                                                          كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله بهذا النص الكريم يبين سبحانه معنى الإيمان الجامع من حيث الاعتقاد ، وذلك الإيمان يتضمن الإيمان بالله تعالى أولا ، ثم بملائكته ، وهم وسائط التبليغ لمن يختارهم لرسالته من خلقه ، ثم بكتبه ، وهي سجل شرائعه التي تنزل من السماء ، ورسله ، وهم المصطفون الأخيار من البشر الذين اختيروا لتبليغ ما اشتملت عليه الكتب . فهذا تدرج قويم ; فابتدأ بالإيمان بالله المنعم بكل شيء في هذا الوجود ; ثم ثنى بالملائكة الأطهار وهم غيب لا يرى ولا نعرف شيئا عنهم إلا بالإخبار منه سبحانه ، وهو الذي أمرنا بالإيمان بهم ، فالإيمان بهم نوع من الإيمان بالله سبحانه . وكذلك الكتب والرسل .

                                                          [ ص: 1088 ] وقد يقال لماذا ذكر الإيمان بهؤلاء بجوار الإيمان بالله تعالى ؟ والجواب عن ذلك أن بعض المنحرفين من أهل الأديان السابقين كانوا يذكرون بغير الخير وبالعداوة بعض الملائكة كجبريل الأمين ، فبين سبحانه أن الملائكة جميعا من غير استثناء يجب الإيمان بهم ، والإذعان لكل ما ينزلون به من رسالات ربهم ، وكذلك الكتب السابقة ، والنبيون السابقون ، فمن بني إسرائيل من قتلوا بعض النبيين ، وكفروا ببعضهم وحرضوا على قتله ، فبين سبحانه وجوب الإيمان بكل الرسل من غير استثناء ، لأنهم المبلغون للناس رسالات الله ، وفوق ذلك فإن هذا الذكر المفصل يفيد اشتراك المؤمنين جميعا في عناصر الإيمان ، وأن الإسلام امتداد لسائر الأديان المنزلة ; وهو الخطوة الأخيرة في شرائع السماء إلى الأرض ، وأن من يؤمن بالإسلام يؤمن بكل الأديان والشرائع التي أنزلت على الرسل غير محرفة ولا مبدلة ; فهو دين الوحدة الإنسانية ، كما هو دين التوحيد الإلهي . والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوحدانيته تعالى في الذات ، فليس لله سبحانه وتعالى مشابه له من الحوادث ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وبوحدانية الله في الخلق والتكوين ، فهو سبحانه الخالق لكل شيء ، وليس لأحد مهما يكن شركة لله سبحانه في الخلق والتكوين ; ووحدانية العبودية ; فلا يعبد مع الله أحدا ; لأنه المنعم بهذا الوجود ، وليس أحد يستحق معه العبادة ; إذ لا يماثله أحد ; تعالى الله عما يقوله المشركون علوا كبيرا .

                                                          وهنا ملاحظة لفظية يجب أن نشير إليها ، وهي لفظ " كل " وعدم إضافته ، إذ قال سبحانه : كل آمن بالله و " كل " سواء أضيفت باللفظ أم لم تضف ، على نية الإضافة ; فالمعنى : كل فريق من هذين الفريقين ، وهما الرسول والمؤمنون وذكر كل على هذا فيه إشارة إلى مرتبة النبيين ، وأنها أعلى من مرتبة المؤمنين ولو كانوا صادقين ، وإن جمعهما المولى القدير في نسبة واحدة ، تعالت كلمات الله سبحانه .

                                                          لا نفرق بين أحد من رسله هذا التفات في القول ، وهو منهاج بلاغي ، فبعد أن كان الكلام بصيغة الحكاية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، صار بصيغة المتحدثين عن أنفسهم هم ، وهي أن حالهم في هذا الإيمان أنهم لا يفرقون بين رسول ورسول ، [ ص: 1089 ] فيؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض ، وهناك قراءة أخرى ، وهي : لا نفرق بين أحد من رسله والضمير في الفعل " نفرق " يعود في هذه القراءة على " كل " ولفظ " كل " مفرد ، فيعود الضمير عليه مفردا وإن كان معناه جمعا ، وقد يعود الضمير جمعا ملاحظا في ذلك المعنى لا اللفظ . ومعنى هذه الجملة السامية هو تصريح بما تضمنه ما قبلها ، لأن ما قبلها تضمن أنهم يؤمنون بكل الرسل ، ومقتضى ذلك أنهم لا يفرقون في الإيمان بهم وكونهم مبعوثين من عند الله بين رسول ورسول ، وعدم التفرقة لا صلة لها بالتفضيل في الدرجات ; لأن ذلك من فضل الله إذ يقول : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ولأن موضوع التفرقة وعدم التفرقة هو في الإيمان .

                                                          وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير في هذه الجمل السامية يبين سبحانه وتعالى خواص الإيمان التي لا تفارقه إلا إذا اعتراه نقص ، وبمقدار نقصها يتخلف المؤمن عن مراتب الكمال ، ودرجات الفوز .

                                                          وأول خاصة من خواص الإيمان ، ومظهر من مظاهره - الاستماع لما يدعو إليه استماع متعرف طالب لحقيقته متقص لغاياته ، متجرد من الأهواء والشهوات ، حتى إذا عرف الحق في الشرع سائغا أطاعه غير متململ ، وصبر على تكليفه غير متضجر ; فمن طلب الدين مؤولا نصوصه على غير وجهها خضوعا لأهواء زمانه ، أو خضوعا لهواه ، فهو غير مستمع ولا طائع ، نعوذ بالله العزيز الكريم . والخاصة الثانية - أن يحس المؤمن بالتقصير مهما يكن مؤديا لواجب الطاعة ، فإن ذلك الإحساس يرهف الوجدان ، ويجعله على مخافة من الزلل ، فيتجنب الشطط ، ويلتزم الاعتدال ; ولذلك قال في هذه الخاصة رب النفوس ومقلب القلوب : غفرانك ربنا أي أنهم لفرط إحساسهم وخشية التقصير ، لأن هذا الدين متين ، يضرعون إلى الله دائما طالبين المغفرة ، ويقولون : غفرانك ربنا أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من مقتضى رحمتك ونعمك التي تفيض علينا دائما ، وأنت ربنا الذي خلقنا وربانا ونمانا ، والعليم بأحوالنا .

                                                          [ ص: 1090 ] وإن هذا هو مقام الخوف الذي يجب أن يغلبه المؤمن ; ولذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إني أخشاكم لله " ومقام الخوف من قوة الإيمان ، والغرور من ضعف الإيمان ، فلا يليق بمؤمن أن يغتر بعبادته ، فإن هذا ينقصها أو دليل على نقصها ، ويقول الصوفية : إن معصية أورثت ذلا واستخذاء خير من طاعة أورثت عزا وافتخارا .

                                                          والخاصة الثالثة - التفويض إلى الله تعالى ، والإيمان باليوم الآخر ; ولذا قال تعالى عنهم : وإليك المصير وإن هذا مقام التفويض والإيمان بالقدر خيره وشره ، وهو مع ذلك يتضمن الإيمان باليوم الآخر ; فالمؤمن الحق يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، ويذعن للحق ويعمل به غير مغتر بعمله ; بل يرجو عفو ربه وغفرانه ، ثم يفوض أموره إلى ربه ، عالما بأن المآل إليه ومصيره عنده سبحانه وتعالى .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية