الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        58 - الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا ، وذلك : أنه إذا توضأ ، فأحسن الوضوء . ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة ، وحط عنه خطيئة . فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ، ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه ، اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : أن لقائل أن يقول : هذا الثواب المقدر لا يحصل بمجرد صلاة الجماعة في البيت . وذلك بناء على ثلاث قواعد . الأولى : أن اللفظ - أعني قوله " وذلك " - أنه يقتضي تعليل الحكم السابق . وهذا ظاهر ; لأن التقدير : وذلك لأنه . وهو مقتض للتعليل . وسياق هذا اللفظ في نظائر هذا اللفظ يقتضي ذلك .

                                        الثانية : أن محل الحكم لا بد أن تكون علته موجودة فيه . وهذا أيضا متفق عليه . وهو ظاهر أيضا . لأن العلة لو لم تكن موجودة في محل الحكم لكانت أجنبية عنه . فلا يحصل التعليل بها .

                                        الثالثة : أن ما رتب على مجموع لم يلزم حصوله في بعض ذلك المجموع إلا [ ص: 192 ] إذا دل الدليل على إلغاء بعض ذلك المجموع ، وعدم اعتباره . فيكون وجوده كعدمه ويبقى ما عداه معتبرا . لا يلزم أن يترتب الحكم على بعضه . فإذا تقررت هذه القواعد : فاللفظ يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بمضاعفة صلاة الرجل في الجماعة على صلاته في بيته وسوقه بهذا القدر المعين . وعلل ذلك باجتماع أمور :

                                        منها : الوضوء في البيت ، والإحسان فيه ، والمشي إلى الصلاة لرفع الدرجات . وصلاة الملائكة عليه ما دام في مصلاه . وإذا علل هذا الحكم باجتماع هذه الأمور ، فلا بد أن يكون المعتبر من هذه الأمور موجودا في محل الحكم . وإذا كان موجودا فكل ما أمكن أن يكون معتبرا منها ، فالأصل : أن لا يترتب الحكم بدونه . فمن صلى في بيته في جماعة لم يحصل في صلاته بعض هذا المجموع ، وهو المشي الذي به ترفع له الدرجات وتحط عنه الخطيئات . فمقتضى القياس : أن لا يحصل هذا القدر من المضاعفة له . لأن هذا الوصف - أعني المشي إلى المسجد ، مع كونه رافعا للدرجات ، حاطا للخطيئات - لا يمكن إلغاؤه . وهذا مقتضى القياس في هذا اللفظ ، إلا أن الحديث الآخر - وهو الذي يقتضي ترتيب هذا الحكم على مطلق صلاة الجماعة - : يقتضي خلاف ما قلناه ، وهو حصول هذا المقدار من الثواب لمن صلى جماعة في بيته . فيتصدى النظر في مدلول كل واحد من الحديثين بالنسبة إلى العموم والخصوص وروي عن أحمد رحمه الله رواية أنه ليس يتأدى الفرض في الجماعة بإقامتها في البيوت ، أو معنى ذلك . ولعل هذا نظرا إلى ما ذكرناه .



                                        البحث الثاني : هذا الذي ذكرناه : أمر يرجع إلى المفاضلة بين صلاة الجماعة في المساجد والانفراد . وهل يحصل للمصلي في البيوت جماعة هذا المقدار من المضاعفة أم لا ؟ والذي يظهر من إطلاقهم : حصوله . ولست أعني أنه لا تفضل صلاة الجماعة في البيت على الانفراد فيه . فإن ذلك لا شك فيه . إنما النظر : في أنه هل يتفاضل بهذا القدر المخصوص أم لا ؟ ولا يلزم من عدم هذا القدر المخصوص من الفضيلة : عدم حصول مطلق الفضيلة . وإنما تردد أصحاب الشافعي في أن إقامة الجماعة في غير المساجد : هل يتأدى بها المطلوب ؟ فعن [ ص: 193 ] بعضهم : أنه لا يكفي إقامة الجماعة في البيوت في إقامة الفرض ، أعني إذا قلنا : إن صلاة الجماعة فرض على الكفاية . وقال بعضهم : يكفي إذا اشتهر ، كما إذا صلى صلاة الجماعة في السوق مثلا . والأول عندي : أصح ; لأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد . هذا وصف معتبر لا يتأتى إلغاؤه . وليست هذه المسألة هي التي صدرنا بها هذا البحث أولا ; لأن في هذه نظر في أن إقامة الشعار هل تتأدى بصلاة الجماعة في البيوت أم لا ؟ والذي بحثناه أولا : هو أن صلاة الجماعة في البيت هل تتضاعف بالقدر المخصوص أم لا ؟



                                        البحث الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه } يتصدى النظر هنا : هل صلاته في جماعة في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة ، أو تفضل عليها منفردا ؟ أما الحديث : فمقتضاه أن صلاته في المسجد جماعة تفضل على صلاته في بيته وسوقه جماعة وفرادى بهذا القدر . لأن قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في جماعة } محمول على الصلاة في المسجد . لأنه قوبل بالصلاة في بيته وسوقه . ولو جرينا على إطلاق اللفظ : لم تحصل المقابلة ; لأنه يكون قسم الشيء قسما منه . وهو باطل . وإذا حمل على صلاته في المسجد ، فقوله صلى الله عليه وسلم " صلاته في بيته وسوقه " عام يتناول الأفراد والجماعة . وقد أشار بعضهم إلى هذا بالنسبة إلى الانفراد في المسجد والسوق من جهة ما ورد أن " الأسواق موضع الشياطين " فتكون الصلاة فيها ناقصة الرتبة ، كالصلاة في المواضع المكروهة لأجل الشياطين ، كالحمام . وهذا الذي قاله - وإن أمكن في السوق - ليس يطرد في البيت . فلا ينبغي أن تتساوى فضيلة الصلاة في البيت جماعة مع فضيلة الصلاة في السوق جماعة ، في مقدار الفضيلة التي لا توجد إلا بالتوقيف . فإن الأصل : أن لا يتساوى ما وجد فيه مفسدة معينة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة . هذا ما يتعلق بمقتضى اللفظ . ولكن الظاهر مما يقتضيه السياق : أن المراد تفضيل صلاة الجماعة في المسجد على صلاته في بيته وسوقه منفردا : فكأنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا . [ ص: 194 ] وبهذا يرتفع الإشكال الذي قدمناه من استبعاد تساوي صلاته في البيت مع صلاته في السوق جماعة فيهما ، وذلك ; لأن من اعتبر معنى السوق ، مع إقامة الجماعة فيه . وجعله سببا لنقصان الجماعة فيه عن الجماعة في المسجد . يلزمه تساوي ما وجدت فيه مفسدة معتبرة مع ما لم توجد فيه تلك المفسدة في مقدار التفاضل . أما إذا جعلنا التفاضل بين صلاة الجماعة في المسجد وصلاتها في البيت والسوق منفردا ، فوصف " السوق " هاهنا ملغى ، غير معتبر .

                                        فلا يلزم تساوي ما فيه مفسدة مع ما لا مفسدة فيه في مقدار التفاضل . والذي يؤيد هذا : أنهم لم يذكروا السوق في الأماكن المكروهة للصلاة . وبهذا فارق الحمام المستشهد بها .



                                        البحث الرابع : قد قدمنا أن الأوصاف التي يمكن اعتبارها لا تلغى . فلينظر الأوصاف المذكورة في الحديث ، وما يمكن أن يجعل معتبرا منها وما لا . أما وصف الرجولية : فحيث يندب للمرأة الخروج إلى المسجد ، ينبغي أن تتساوى مع الرجل ، لأن وصف الرجولية بالنسبة إلى ثواب الأعمال غير معتبر شرعا . وأما الوضوء في البيت : فوصف كونه في البيت غير داخل في التعليل . وأما الوضوء : فمعتبر للمناسبة ، لكن : هل المقصود منه مجرد كونه طاهرا ، أو فعل الطهارة ؟ فيه نظر . ويترجح الثاني بأن تجديد الوضوء مستحب ، لكن الأظهر : أن قوله صلى الله عليه وسلم " إذا توضأ " لا يتقيد بالفعل . وإنما خرج مخرج الغلبة ، أو ضرب المثال . وأما إحسان الوضوء : فلا بد من اعتباره . وبه يستدل على أن المراد فعل الطهارة . لكن يبقى ما قلناه : من خروجه مخرج الغالب ، أو ضرب المثال وأما خروجه إلى الصلاة : فيشعر بأن الخروج لأجلها . وقد ورد مصرحا به في حديث آخر { لا ينهزه إلا الصلاة } وهذا وصف معتبر . وأما صلاته مع الجماعة : فبالضرورة لا بد من اعتبارها . فإنها محل الحكم .

                                        البحث الخامس : الخطوة - بضم الخاء - ما بين قدمي الماشي ، وبفتحها : الفعلة . وفي هذا الموضع هي مفتوحة ، لأن المراد فعل الماشي .




                                        الخدمات العلمية