الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [75] إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات أي : ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . و ( الضعف ) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله ، ودل على إضمار العذاب وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات ، كقوله تعالى : ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون

                                                                                                                                                                                                                                      والسبب في تضعيف العذاب ; أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر . فكانت ذنوبهم أعظم . فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر . ونظيره قوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                                      الأول: قال القفال رحمه الله ) بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه): ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه ; لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يقدرون عليه . فتارة كانوا يقولون : [ ص: 3956 ] إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وقوله : ودوا لو تدهن فيدهنون وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة ، فأنزل الله تعالى : ولا تمدن عينيك ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب . وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه . فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم. وعلى هذا الطريق . فلا حاجة في تفسير هذه الآيات، إلى شيء من تلك الروايات . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : قال القاضي : معنى قوله تعالى : ولولا أن ثبتناك الآية ، إنك كنت على صدد الركون إليهم ، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم . لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون ، فضلا عن أن تركن عليهم . وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما هم بإجابتهم ، مع قوة الداعي إليها ، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : قال الزمخشري : في ذكر الكيدودة وتقليلها ، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين ; دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة ، مضادة لله وخروج عن ولايته ، وسبب موجب لغضبه ونكاله . فعلى المؤمن ، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر . وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : جاء في (" حواشي جامع البيان ") ما مثاله بالحرف : من الفوائد الجليلة في هذه الآية ، أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك ، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما . فإنها شعائر [ ص: 3957 ] الكفر والشرك . وهي أعظم المنكرات ، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة . وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله. والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل ، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض ، مع القدرة على إزالته . وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، وأعظم شرك عندها وبها . فإن اللات - على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد - رجل كان يلت لهم السويق فمات . فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه . ولم يقولوا : إن اللات خلقت السماوات والأرض ، بل كان شركهم باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه ، من النذور لها ، والشرك بها ، والتمسح بها ، وتقبيلها ، واستلامها . وما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مجرد مس آلهتهم ، كما قالوا نؤمن بك إن تمس آلهتنا ، وما التمسوا منه إلا التمتيع باللات سنة من غير عبادة ، فتوعد بهذا الوعيد الشديد والتهديد الأكيد أن لو ركن إليهم . فالرزية كل الرزية ما ابتلي به القبوريون من أهل هذا الزمان . فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام ، إلا فعلوه بالقبور . فإنا لله وإنا إليه راجعون . بل كثير منهم ، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه ، حلف بالله فاجرا ، فإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ، أو بمعتقدك الولي الفلاني ، تلكأ وأبى واعترف بالحق . وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : ( ثالث ثلاثة ) فيا علماء الدين ! ويا ملوك المسلمين ! أي : رزء للإسلام أشد من الكفر ؟ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه ؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فاللهم ! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3958 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية