الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          180 - فصل

                          [ الدليل على أن المراد بالفطرة ( الدين ) ] .

                          ويدل على صحة ما فسر به الأئمة الفطرة أنها " الدين " ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث عياض بن حمار المجاشعي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما [ ص: 954 ] أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " وهذا صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية ، وأن الشياطين اقتطعتهم بعد ذلك عنها ، وأخرجوهم منها ، قال تعالى : ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) ، وهذا يتناول إخراج الشياطين لهم من نور الفطرة إلى ظلمة الكفر والشرك ، ومن النور الذي جاءت به الرسل من الهدى ، والعلم إلى ظلمات الجهل والضلال .

                          وفي " المسند " ، وغيره من حديث الأسود بن سريع قال : بعث [ ص: 955 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية ، فأفضى بهم القتل إلى الذرية ، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما حملكم على قتل الذرية " ؟

                          [ قالوا ] : يا رسول الله ، أليسوا أولاد المشركين ؟ قال : " أوليس خياركم أولاد المشركين ؟ " ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا ، فقال : " ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه "
                          فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين ، وقوله لهم : " أوليس خياركم أولاد المشركين ؟ " نص أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ، ثم الكفر طرأ بعد ذلك ، ولو أراد : أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق به القدر ، لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده من نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين .

                          وقد ظن بعضهم أن معنى قوله : " أو ليس خياركم أولاد المشركين " معناه : لعله أن يكون قد سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا ، فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز ، وليس هذا معنى الحديث ، ولكن معناه : أن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين ، والأنصار ، وهؤلاء من [ ص: 956 ] أولاد المشركين ، فإن آباؤهم كانوا كفارا ، ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك ، فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنا ، فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه ، وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن .

                          وهذا الحديث - وهو حديث الفطرة - ألفاظه يفسر بعضها بعضا ، ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة اقرءوا : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ، قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .

                          وفي " الصحيح " ، قال الزهري : يصلى على كل مولود يتوفى ، وإن كان لغية ، من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل خارجا ، ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط ، وأن أبا هريرة كان يحدث أن النبي [ ص: 957 ] - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " ثم يقول أبو هريرة : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) .

                          وفي " الصحيح " من رواية الأعمش : " ما من مولود إلا وهو على الملة " .

                          وفي رواية أبي معاوية عنه " إلا على هذه الملة ، حتى يبين عنه لسانه " : فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث ، واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك .

                          قال ابن عبد البر : وسئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة : أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه ، وهو رضيع ؟ قال : نعم ؛ لأنه ولد على الفطرة .

                          قال ابن عبد البر ، وقد ذكر أقوال الناس في هذا الحديث .

                          وقال آخرون : الفطرة هاهنا هي الإسلام . قالوا : وهو المعروف عند عامة السلف ، وأهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قوله عز وجل : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، على أن قالوا : فطرة الله دين الإسلام .

                          واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث : " اقرءوا إن شئتم : [ ص: 958 ] ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) .

                          قال : وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، قالوا : فطرة الله دين الإسلام : ( لا تبديل لخلق الله ) ، قالوا : لدين الله .

                          واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق ، عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر ، عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي ، عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للناس يوما : " ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب ؟ إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين ، وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه ، فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلالا " الحديث .

                          قال : وكذلك روى بكر بن مهاجر ، عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث : " حنفاء مسلمين " .

                          قال أبو عمر : روي هذا الحديث عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله ، عن عياض بن حمار ، ولم يسمعه قتادة من مطرف ، ولكن قال : حدثني ثلاثة : عقبة بن عبد الغافر ، ويزيد بن عبد الله بن الشخير ، والعلاء بن زياد ، كلهم يقول : حدثني مطرف ، عن عياض ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 959 ] فقال فيه : " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم " لم يقل " مسلمين " .

                          وكذلك رواه الحسن ، عن مطرف ، عن عياض .

                          ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم ، عن قتادة بإسناده قال فيه : " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم " ، ولم يقل " مسلمين " .

                          قال : فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق ، وإتقانه ، وضبطه ؛ لأنه ذكر " مسلمين " في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث ، وأسقطه من رواية قتادة ، وكذلك رواه الناس عن قتادة : قصر فيه عن قوله " مسلمين " وزاده ثور بإسناده ، فالله أعلم .

                          قال أبو عمر : والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص ، ولا استقامة أكبر من الإسلام ، قال : وقد روي عن الحسن قال : " الحنيفية حج البيت " وهذا يدل على أنه أراد الإسلام ، وكذلك روي عن الضحاك ، [ ص: 960 ] والسدي " حنفاء : حجاجا " ، وعن مجاهد : " حنفاء متبعين " ، قال : وهذا كله يدل على أن الحنيفية : الإسلام .

                          قال : وقال أكثر العلماء : الحنيف المخلص . وقال الله عز وجل : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ) [ ص: 961 ] وقال تعالى : ( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) ، قال الراعي :


                          أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا     عرب نرى الله في أموالنا
                          حق الزكاة منزلا تنزيلا

                          قال : فوصف الحنيفية بالإسلام ، وهو أمر واضح لا خفاء به ، قال : ومما احتج به من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث : " الإسلام " قوله - صلى الله عليه وسلم - : " خمس من الفطرة " ، ويروى : " عشر من الفطرة " يعني : فطرة الإسلام . انتهى .

                          قال شيخنا : فالأدلة الدالة على أنه أراد فطرة الإسلام كثيرة : كألفاظ الحديث الصحيح المتقدمة ، كقوله : " على الملة " : و " على هذه الملة " ، [ ص: 962 ] وقوله : " خلقت عبادي حنفاء " وفي الرواية الأخرى : " حنفاء مسلمين " ، ومثل تفسير أبي هريرة ، وهو أعلم بما سمع .

                          ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقيب ذلك : " أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير ؟ " لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوه ، والعلم القديم والكتاب السابق لا يتغير .

                          وقوله : " فأبواه يهودانه ، وينصرانه ويمجسانه " بين فيه أنهم يغيرون الفطرة المخلوق عليها بذلك .

                          وأيضا ، فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيها ، ثم تجدع بعد ذلك ، فعلم أن التغير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها .

                          وأيضا ، فالحديث مطابق لقوله تعالى : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، وهذا يعم جميع الناس ، فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة ، وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم ، فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة يبين ذلك أنه قال : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، وهذا نصب على المصدر [ ص: 963 ] الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه ، فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره مثل قوله : ( كتاب الله عليكم ) ، وقوله : ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ، فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم ، كأنه قال : كتب الله ذلك عليكم ، وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك : على إقامة الدين حنيفا .

                          وكذلك فسره السلف ، قال ابن جرير في هذه الآية : يقول : فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته ، وهو الدين حنيفا ، يقول : " مستقيما لدينه وطاعته " ، ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، يقول : " صنعة الله التي خلق الناس عليها " ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله : ( فأقم وجهك للدين حنيفا ) ، وذلك أن معنى الآية : فطر الله الناس على ذلك فطرة .

                          قال : وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، ثم روى عن ابن زيد قال : " فطرة الله التي فطر الناس عليها قال : هي الإسلام منذ خلقهم الله من [ ص: 964 ] آدم جميعا ، يقرون بذلك ، وقرأ : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) ، فهذا قول الله : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين )

                          [ بعد ] .

                          ثم ذكر بإسناد صحيح عن مجاهد قال : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، قال : الدين الإسلام .

                          [ ص: 965 ] حدثنا ابن حميد ، ثنا يحيى بن واضح ، ثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن يزيد بن أبي مريم قال : مر عمر بمعاذ بن جبل ، فقال : ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ : ثلاث وهن المنجيات : الإخلاص ، وهو الفطرة ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، والصلاة ، وهي الملة ، والطاعة ، وهي العصمة . فقال عمر : صدقت .

                          ثم قال : حدثني يعقوب الدورقي ، ثنا ابن علية ، ثنا أيوب ، عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ : ما قوام هذه الأمة ؟ فذكر نحوه .

                          [ ص: 966 ] قال وقوله : ( لا تبديل لخلق الله ) ، يقول : لا تغيير لدين الله ، أي : لا يصلح ذلك ، ولا ينبغي أن يفعل .

                          وروى عبد الله بن إدريس ، عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له : قاسم إلى عكرمة يسأله عن قوله : ( لا تبديل لخلق الله ) ، فقال : لدين الله .

                          ثم ذكر عن عكرمة : ( فطرة الله ) ، قال : الإسلام .

                          وكذلك روي عن قتادة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك ، وإبراهيم [ ص: 967 ] النخعي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

                          وروي عن ابن عباس أنه سئل عن خصاء البهائم ؟ فكرهه ، وقال : ( لا تبديل لخلق الله ) .

                          وكذلك قال عكرمة ، ومجاهد في رواية ليث عنه .

                          [ ص: 968 ] قال شيخنا : ولا منافاة بين القولين عنهما ، كما قال تعالى عن الشيطان : ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) ، فتغيير ما خلق الله عباده عليه من الدين تغيير لدينه ، والخصاء وقطع الأذن تغيير لخلقه ، ولهذا شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما بالآخر في قوله : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " فأولئك يغيرون الدين ، وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع ، والخصاء ، هذا يغير ما خلق الله عليه قلبه ، وهذا يغير ما خلق عليه بدنه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية