الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1936 - مسألة : ومن باع عبده وله زوجة فهي زوجته كما كانت ، ومن باع أمته ولها زوج فهي زوجته كما كانت . وقد اختلف الناس في ذلك كما روينا من طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم قال : سئل إبراهيم النخعي عن الأمة تباع ولها زوج ؟ فقال : كان عبد الله بن مسعود يقول : بيعها طلاقها ويتلو هذه الآية : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } . نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي ، عن ابن مسعود أنه قال في قول الله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين . ومن طريق وكيع عن المبارك بن فضالة عن الحسن البصري عن أبي بن كعب قال : بيعها طلاقها . أنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا سليمان التيمي عن [ ص: 311 ] أبي مجلز عن أنس بن مالك قال : بيع الأمة طلاقها - قال أنس { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } قال : ذوات البعول . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن جابر بن عبد الله قال : بيعها طلاقها . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : بيع الأمة هو طلاقها . ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس بن عبيد عن الحسن قال : أيهما بيع فهو طلاق - يعني : العبد من زوجته ، والأمة من زوجها : نا محمد بن سعيد بن نبات نا عباس بن أصبغ نا محمد بن قاسم بن محمد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الأعلى نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري أنه قال في الأمة : بيعها طلاقها - يعني : من زوجها ، وبيعه طلاقها - يعني : من زوجته . ومن طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : إذا زوج عبده من أمته فالطلاق بيد العبد ، وإذا اشترى أمة ولها زوج فالطلاق بيد المشتري . وقالت طائفة : إن بيعت الأمة فهو طلاقها من زوجها ، وإن بيع العبد وله زوجة لم تطلق بذلك . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وابن أبي نجيح قال الزهري : عن سعيد بن المسيب ، وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، قالا جميعا : بيعها طلاقها ، فإن بيع العبد لم تطلق هي حينئذ . وروينا عن الحسن البصري أن العبد إذا أبق وله زوجة فإنها طالق بإباقة العبد - روينا ذلك من طريق سعيد بن منصور نا هشيم : يسبى أرنا منصور عن الحسن أنه كان يقول : إباق العبد طلاقه .

                                                                                                                                                                                          وذهبت طائفة : إلى قول آخر ، كما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا مسدد نا المعتمر بن سليمان قال : سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز عن [ ص: 312 ] أنس بن مالك قال في قول الله عز وجل : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } .

                                                                                                                                                                                          قال : المحصنات ذوات الأزواج من الحرائر ، وإذ هو لا يرى بأسا بما ملكت اليمين أن ينتزع الرجل الجارية من عبده فيطؤها .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى إسماعيل نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن جعفر غندر عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قول الله عز وجل : { إلا ما ملكت أيمانكم } قال ينتزع الرجل وليدته امرأة عبده .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أنتزع أمتي من عبد قوم آخرين أنكحتها إياه ؟ قال : نعم ، وأرضه ، قلت : أبى إلا صداقه ؟ قال : هو له كله ، فإن أبى فانتزعها ، إن شئت ، ومن حر أنكحتها إياه - ثم رجع عطاء فقال : لا تنتزعها من الحر ، وإن أعطيته الصداق فلا تستخدمها ، ولا تبعها .

                                                                                                                                                                                          وذهب آخرون إلى أن بيع الأمة ليس طلاقا ، وأن بيع العبد أو إباقه ليس طلاقا لزوجته ، ولا للسيد أن ينتزع أمته من عبده إذا زوجها منه - : روينا عن عمر بن الخطاب : أنه ليس بيع الأمة طلاقا لها من زوجها .

                                                                                                                                                                                          وصح أن ابن عمر أن سأله رجل فقال : اشتريت جارية لها زوج أفأطؤها ؟ فقال له ابن عمر : أتريد أن أحل لك الزنا ؟ وصح هذا أيضا عن عبد الرحمن بن عوف ، وعن عثمان ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص - وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبو سليمان ، وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتج من رأى بيعها طلاقها بقول الله عز وجل : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } .

                                                                                                                                                                                          قالوا : فحرم الله تعالى علينا كل محصنة إلا ما ملكت أيماننا فهي حلال لنا من جملة المحصنات - والمحصنات هن ذوات الأزواج .

                                                                                                                                                                                          فصح أنهن إذا كن ذوات أزواج فملكناهن أنهن لنا حلال ، ولا يحللن لنا إلا بأن يحرمن على أزواجهن ، إذ كون الفرج حلالا لاثنين معا ممنوع في الديانة .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 313 ] قالوا : وسواء في ذلك المبيعات والمسبيات ، لأن الآية على عمومها .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : إنما عنى الله عز وجل بذلك المسبيات خاصة . روينا ذلك عن علي بن أبي طالب من طريق إبراهيم عنه ، وإبراهيم لم يدركه ، ولا لقيه ، وعن ابن عباس من طريق إسرائيل بن يونس - وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن ابن عباس أيضا : كل ذات زوج عليك حرام من طريق يحيى بن عبد الملك الحماني - وهو ضعيف - عن شريك - وهو مدلس .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما من جعل بيع الأمة طلاقها واحتج بقوله تعالى : { إلا ما ملكت أيمانكم } فوجدناها قد خصها خبر صحيح ، وهو بيع بريرة وابتياع عائشة أم المؤمنين لها ، ولها زوج اسمه مغيث ، فلم يكن بيعها طلاقا لها ، ثم أعتقتها أم المؤمنين بعد ابتياعها لها ، فلم يكن ذلك أيضا طلاقا لها ، بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ في البقاء في زوجيته ، أو في فراقه .

                                                                                                                                                                                          فصح بذلك أن بيع الأمة ليس طلاقا لها ، وصح بهذا : أن قوله تعالى { : إلا ما ملكت أيمانكم } استثناء منقطع - معناه : لكن ما ملكت أيمانكم ما لم يحرم عليكم ، كذوات المحارم ، وذوات الأزواج ، والكوافر ، فما عدا هؤلاء فحلال لكم .

                                                                                                                                                                                          وأما من قال : بيع العبد طلاق لزوجته الأمة ، فلا نعلم له شيئا يتعلق به - فسقط هذا القول ، والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا في المسبية مع زوجها ، أو دونه ، أو يسبى هو دونها ، أو خرجت إلى أرض المسلمين ولها زوج في أرض الحرب ؟ فوجدناها لا تخلو من أن تكون إذ سبيت ، أو خرجت إلى أرض المسلمين مختارة : بقيت على دينها الكتابي ، أو غير الكتابي ، أو أسلمت ؟ لا تخلو ضرورة من أحد هذين الوجهين ، ولا ثالث هنالك .

                                                                                                                                                                                          فإن كانت لم تسلم فقد بينا في صدر كلامنا في " النكاح " من كتابنا هذا أن وطء الأمة الكافرة كتابية كانت أو غير كتابية بملك اليمين لا يحل أصلا فأغنى عن إعادته لقول [ ص: 314 ] الله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } .

                                                                                                                                                                                          ولم يخص الله تعالى من هذا التحريم إلا ما كان بالزواج فقط بقوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن } .

                                                                                                                                                                                          وقد صح أن عقود نكاحات الكفار صحاح ، ومنها كانت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - وما صح فلا سبيل لإبطاله إلا بنص - فصح أنها ما لم تسلم المسبية ذات الزوج فهي على زوجيتها سواء بقي في دار الحرب أو سبي معها .

                                                                                                                                                                                          وأما قول من قال : إن اختلاف الدارين يقطع عصمة النكاح ، فقول باطل فاسد ، لأنه دعوى مجردة لم يؤيدها قط قرآن ، ولا سنة وقد تكلمنا في صدر كتابنا هذا في الخبر الوارد من طريق أبي سعيد الخدري إذ أصابوا سبايا أوطاس ، فتحرجوا من غشيانهن ، فأنزل الله عز وجل : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن .

                                                                                                                                                                                          وبينا أنهن بيقين - متفق عليه - وثنيات من سبايا هوازن ، ووطؤهن لا يحل للمسلمين حتى يسلمن بلا خلاف منا ومن الحاضرين من المخالفين وبنص تحريم المشركات حتى يؤمن - فصح أن مراد الله تعالى بذلك إذا أسلمن .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإذا أسلمن فلا يخلون ضرورة من أن يكون زوج من أسلم منهن سبي معها أو لم يسب ، بل هو في أرضه ، فإن كان معها أو في أرضه ولم يسلم قبل إسلامها إن كانت كتابية ، أو مع إسلامها كائنا ما كان دينها ؟ فقد انفسخ نكاحها منه على ما نذكر بعد هذا - إن شاء الله تعالى - فإذا انفسخ نكاحها بإسلامها دون إسلام زوجها فقد حل فرجها لسيدها المسلم حينئذ : بنص القرآن والسنة بلا خلاف ، فإن أسلم زوجها مع إسلامها كائنا ما كان دينها ، أو أسلم قبل إسلامها وهي كتابية ، فهما في كل ما ذكرنا باقيان على زوجيتهما ، لما ذكرنا : من أن كل نكاح صح بتصحيح الله تعالى إياه فإنه لا يحل لأحد فسخه إلا بنص قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة ، ولا سبيل إلى وجود شيء من ذلك في فسخ نكاح المسبية بعد إسلامها دون إسلام زوجها فقط .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 315 ] وقد قال أبو حنيفة : إذا سبي الزوجان فهما على نكاحهما حتى يخرجا إلى دار الإسلام ، فإذا صار فيها انفسخ النكاح - وهذا قوله أوله صحيح وآخره في غاية الفساد ، لأن اختلاف الدارين لا يحرم نسبا ولا يحله .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : إن جاء أهل الحرب بسبي فيه زوجان فهما على نكاحهما ؟ قال أبو محمد : كل قول ما لم يؤيده قرآن ولا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة فهو باطل بيقين لا شك فيه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية