الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              [ ص: 560 ] المسألة الثانية عشرة :

                                                                                                                                                                                                              وهي مقصود الباب وتحقيقه في بيان الكتاب ، وذلك أن العلماء اختلفوا في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه على قولين :

                                                                                                                                                                                                              الأول : كان النبي صلى الله عليه وسلم خير أزواجه بإذن الله في البقاء على الزوجية ، أو الطلاق .

                                                                                                                                                                                                              فاخترن البقاء معه ، قالته عائشة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، وابن شهاب ، وربيعة .

                                                                                                                                                                                                              ومنهم من قال : إنه كان التخيير بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة ، ومن الصحابة علي .

                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عبد الحكم : معنى خيرهن قرأ عليهن الآية ، ولا يجوز أن يقول ذلك بلفظ التخيير ; فإن التخيير إذا قبل ثلاث ، والله أمره أن يطلق النساء لعدتهن ، وقد قال : { سراحا جميلا } والثلاث ليس مما يجمل ; وإنما السراح الجميل واحدة ليس الثلاث التي يوجبهن قبول التخيير .

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي رضي الله عنه : أما عائشة فلم يثبت ذلك عنها قط ، إنما المروي عنها أن مسروقا سألها عن الرجل يخير زوجته فتختاره ، أيكون طلاقا ؟ فإن الصحابة اختلفوا فيه .

                                                                                                                                                                                                              فقالت عائشة : خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ، أكان ذلك طلاقا ؟ خرجه الأئمة وروي ، فلم يكن شيئا ، فلا وجدوا لفظ ( خير ) في حديث عائشة ، وقولها : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه بدأ بي ، فقال : إني ذاكر لك أمرا : إن الله تعالى قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن } . وليس في هذا تخيير بطلاق كما زعموا ، وإنما يرجع الأول إلى أحد وجهين : التخيير بين الدنيا ، فيوقع الطلاق ; وبين الآخرة فيكون الإمساك ، ولهذا يرجع قولهم إلى آية التخيير ، وقولها ، خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أو أمر بتخيير نسائه ، فإنما يعود ذلك كله إلى هذا التفسير من التخيير . والذي يدل عليه أنه قد سمى كما تقدم آية التخيير : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } . [ ص: 561 ] وليس للتخيير فيها ذكر لفظي ، ولكن لما كان فيها معنى التخيير نسبها إلى المعنى .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن ابن عبد الحكم قد قال : إن معنى خيرهن قرأ عليهن آية التخيير ; وقوله : إنه لا يجوز أن يخيرهن بلفظ التخيير صحيح .

                                                                                                                                                                                                              والدليل عليه نص الآية ; فإن التخيير فيها إنما وقع بين الآخرة ، فيكون التمسك ; وبين الدنيا ، فيكون الفراق ; وهو ظاهر من نص الآية ، وليس يدل عليه ما قال من أن التخيير ثلاث ، والله أمره بأن يطلق النساء لعدتهن ; فإن كون قبول الخيار ثلاثا إنما هو مذهبه ، ولا يصح لأحد أن يستدل على حكم بمذهب بقول يخالف فيه ; فإن أبا حنيفة وأحمد يقولان : إنها واحدة في تفصيل ، وقوله : إن الله قال : سراحا جميلا . والثلاث مما لا يجمل خطأ ; بل هي مما يجمل ويحسن قال الله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فسمى الثلاث تسريحا بإحسان .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : إنما توصف بالإحسان إذا فرقت ; فأما إذا وقعت جملة فلا .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : لا فرق بينهما ; فإن الثلاث فرقة انقطاع ، كما أن التخيير عندك فرقة انقطاع . وإنما المعنى السراح الجميل ، والسراح الحسن فرقة من غير ضرر ، كانت واحدة أو ثلاثا ، وليس في شيء مما ظنه هذا العالم .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة عشرة :

                                                                                                                                                                                                              قال ابن القاسم ، وابن وهب : قال مالك : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة : ابعثي إلى أبويك . فقالت : يا رسول الله ، لم ؟ فقال : إن الله أمرني أن أخيركن . فقالت : إني أختار الله ورسوله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فقالت له عائشة : يا رسول الله ; إن لي إليك حاجة ; لا تخير من نسائك من تحب أن تفارقني ، فخيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا ، فكلهن اخترنه } .

                                                                                                                                                                                                              { قالت عائشة : خيرنا فاخترناه ، فلم يكن طلاقا } . [ ص: 562 ] وفي الصحيح { عن عائشة : لما نزلت : { وإن كنتن تردن الله ورسوله } الآية دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ بي ، فقال : يا عائشة ; إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك . قالت : وقد علم والله أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، فقرأ علي : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } . فقلت : أوفي هذا أستأمر أبوي ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة } .

                                                                                                                                                                                                              هذه رواية معمر عن عروة عن الزهري عن عائشة . قال معمر : وقال أيوب : قالت عائشة : يا رسول الله ، لا تخبر أزواجك أني اخترتك ; قال : { إن الله لم يبعثني متعنتا ، إنما بعثني مبلغا } .

                                                                                                                                                                                                              وفي رواية : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على أزواجه الآية ويقول : قد اختارتني عائشة ، فاخترنه كلهن } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة عشرة : روى أنس بن مالك قال : لما خيرهن اخترنه ، فقصره الله عليهن ، ونزلت : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } .

                                                                                                                                                                                                              وسيأتي بيان هذه الآية في موضعها إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية