الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 569 ] وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنـزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

                                                                                                                                                                                                وجه النهار : أوله، قال [من الكامل]:


                                                                                                                                                                                                من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار



                                                                                                                                                                                                والمعنى: أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار "واكفروا": به في آخره لعلهم يشكون في دينهم ويقولون: ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم.

                                                                                                                                                                                                وقيل: تواطأ اثنا عشر من أحبار يهود خيبر، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار من غير اعتقاد، واكفروا به آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقيل: هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة قال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها في أول النهار، ثم اكفروا به في آخره وصلوا إلى الصخرة، ولعلهم [ ص: 570 ] يقولون: هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون.

                                                                                                                                                                                                ولا تؤمنوا متعلق بقوله أن يؤتى أحد وما بينهما اعتراض، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام.

                                                                                                                                                                                                أو يحاجوكم عند ربكم : عطف على (أن يؤتى) والضمير في يحاجوكم لـ(أحد) لأنه في معنى الجمع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: فما معنى الاعتراض؟ قلت: معناه: أن الهدى هدى الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم، وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله تعالى: قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء يريد: الهداية والتوفيق، أو يتم الكلام عند قوله: إلا لمن تبع دينكم على معنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم : إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم.

                                                                                                                                                                                                وقوله: أن يؤتى معناه: لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه، لا لشيء آخر، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي - أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب- دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير : (أأن يؤتى أحد) بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ، بمعنى: إلا أن يؤتى أحد.

                                                                                                                                                                                                فإن قلت: فما معنى قوله: أو يحاجوكم على هذا؟ قلت: معناه: دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم، ويجوز أن يكون هدى الله بدلا من الهدى، و أن يؤتى أحد خبر إن، على معنى: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم.

                                                                                                                                                                                                وقرئ: (إن يؤتى أحد) على إن النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب، أي: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما [ ص: 571 ] أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم، ويجوز أن ينتصب أن يؤتى : بفعل مضمر يدل عليه قوله: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كأنه قيل: قل إن الهدى هدى الله، فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم; لأن قولهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم : إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أتوا.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية