الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      ومنها - وهو المقصود الأعظم - التأهب له قبل نزوله ، والاستعداد لما بعده قبل حصوله ، والمبادرة بالعمل الصالح والسعي النافع قبل دهوم البلاء وحلوله ، إذ هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار وهو الفصل بين ساعة العمل والجزاء عليه ، والحد الفارق بين أوان تقديم الزاد والقدوم عليه ، إذ ليس بعده لأحد من مستعتب ولا اعتذار ، ولا زيادة في الحسنات ولا نقص من السيئات ، ولا حيلة ولا افتداء ولا درهم ولا دينار ولا مقعد ولا منزل إلا القبر وهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إلى يوم البعث والجزاء وجمع الأولين والآخرين وأهل السماوات والأرضين والموقف الطويل بين يدي القوي المتين يوم يقوم الناس لرب العالمين الحكيم العليم المقسط العدل الحكيم الذي لا يحيف ولا يجور ولا يظلم مثقال ذرة إن ربي على صراط مستقيم ، ثم إما نعيم مقيم في جنات النعيم وإما عذاب أليم في نار الجحيم ، وإن لكل ظاعن مقرا ولكل نبأ مستقرا وسوف تعلمون . قال الله تعالى : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) ( المؤمنون : 99 - 100 ) الآيات .

      وقال تعالى : [ ص: 709 ] ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) ( الحشر : 18 ) الآيات . وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) ( المنافقون : 10 - 11 ) ( وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل ) ( الشورى : 44 ) وهذا سؤالهم الرجعة عند الاحتضار ، وكذلك يسألون الرجعة عند معاينة العذاب يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) ( إبراهيم : 44 ) الآيات .

      وكذلك يسألون الرجعة إذا وقفوا على النار ورأوا ما فيها من عظيم الأهوال وشديد الأنكال والمقامع والأغلال والسلاسل الطوال وما لا يصفه عقل ولا يعبر عنه مقال ولا يغني بالخبر عنه ضرب الأمثال كما قال تعالى : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) ( الأنعام : 27 - 28 ) الآيات . وكذلك يسألون الرجعة إذا وقفوا على ربهم وعرضوا عليه وهم ناكسو رءوسهم بين يديه كما قال تعالى : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) ( السجدة : 12 ) الآيات . وكذلك يسألون الرجعة وهم في غمرات الجحيم وعذابها الأليم كما قال تعالى : ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ) ( فاطر : 37 ) الآيات .

      وقال تعالى : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) ( غافر : 11 ) وغيرها من الآيات . [ ص: 710 ] ويجمع كل ذلك قوله تعالى : ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ) ( الأعراف : 53 ) وغيرها من الآيات .

      وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد يموت إلا ندم . قالوا : وما ندامته يا رسول الله ؟ قال : إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد ، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع " . رواه الترمذي وغيره ، وله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت . فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكفار . فقال : سأتلوا عليك بذلك قرآنا : ( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون ) ( المنافقون : 10 - 11 ) قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا . قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والبعير .

      وقال قتادة : في قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) ( المؤمنون : 99 ) قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة ربه تعالى . وقال قتادة : والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ولا حول ولا قوة إلا بالله . وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إذا وضع - يعني الكافر - في قبره فيرى مقعده من النار قال : فيقول رب ارجعون أتوب وأعمل صالحا . قال [ ص: 711 ] فيقال : قد عمرت ما كنت معمرا . قال : فيضيق عليه قبره ويلتئم فهو كالمنهوش ينام أو يفزع تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها .

      وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني . فتكون عليه حسرة . قال : وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني قال فيكون لهم الشكر " . وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها " الحديث . وحديثه عند الترمذي : " بادروا بالأعمال سبعا : هل تنتظرون إلا " إلى : " فقر منس " الحديث .

      وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " .

      وللحاكم عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه : " اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك " يعني أن هذه الخمس أيام الشباب والصحة والغنى والفراغ والحياة هي أيام العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد ، فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها ، ولا ينفعه التمني للأعمال بعد التفريط منه والإهمال ، في زمن الفرصة والإمهال ، فإن بعد كل شباب هرما ، وبعد كل صحة سقما ، وبعد كل غنى فقرا ، وبعد كل فراغ شغلا ، وبعد كل حياة موتا ، فمن فرط في العمل أيام الشباب لم يدركه في [ ص: 712 ] أيام الهرم ، ومن فرط فيه في أوقات الصحة لم يدركه في أوقات السقم ، ومن فرط فيه في حالة الغنى فلم ينل القرب التي لم تنل إلا بالغنى لم يدركه في حالة الفقر ، ومن فرط فيه في ساعة الفراغ لم يدركه عند مجيء الشواغل ، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات ، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات ، ويطلب الكرة وهيهات ، وحيل بينه وبين ذلك وعظمت حسراته حين لا مدفع للحسرات .

      ولقد حثنا الله عز وجل أعظم الحث وحضنا أشد الحض ودعانا إلى اغتنام الفرص في زمن المهلة وأخبرنا أن من فرط في ذلك تمناه وقد حيل بينه وبينه إذ يقول تعالى في محكم كتابه داعيا عباده إلى بابه يا من يسمع صريح خطابه ويتأمل لطيف عتابه : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ) ( الزمر 53 - 59 ) الآيات . وقال تعالى : ( فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) ( الروم : 43 ) الآيات . وقال تعالى : ( استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير ) ( الشورى : 47 ) الآيات . وغيرها .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية