الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 231 ] ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة قال ابن إسحاق : وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما حدثني محمد بن مسلم الزهري عن عروة عن عائشة ، حين ضاقت عليه مكة ، وأصابه فيها الأذى ، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما رأى ، استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة ، فأذن له ، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا ، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين ، لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد الأحابيش قال الواقدي : اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة . وقال السهيلي : اسمه مالك فقال : إلى أين يا أبا بكر ؟ قال : أخرجني قومي ، وآذوني ، وضيقوا علي . قال : ولم ؟ فوالله إنك لتزين العشيرة ، وتعين على النوائب ، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم ، ارجع فإنك في جواري . فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش ، إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير . [ ص: 232 ] قالت : فكفوا عنه . قالت : وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح ، فكان يصلي فيه ، وكان رجلا رقيقا ، إذا قرأ القرآن استبكى . قالت : فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء ، يعجبون لما يرون من هيئته . قالت : فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا : يا بن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا ، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ، وكانت له هيئة ونحو ، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم ، فأته فمره بأن يدخل بيته ، فليصنع فيه ما شاء . قالت : فمشى ابن الدغنة إليه ، فقال : يا أبا بكر إني لم أجرك لتؤذي قومك ، وقد كرهوا مكانك الذي أنت به ، وتأذوا بذلك منك ، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت . قال : أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله . قال : فاردد علي جواري . قال : قد رددته عليك . قالت : فقام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري ، فشأنكم بصاحبكم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفردا به ، وفيه زيادة حسنة ، فقال : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : لم أعقل أبوي قط [ ص: 233 ] إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار بكرة وعشية ، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة ، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة ، فقال أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي ، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي . فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله ، إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، ارجع فاعبد ربك ببلدك . فرجع وارتحل معه ابن الدغنة وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش ، فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج مثله ، ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ؟ ! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، وليصل فيها وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك ، ولا يستعلن به ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا . فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ، ولا يستعلن بصلاته ، ولا يقرأ في غير داره ، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره ، وكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن ، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ، يعجبون منه وينظرون إليه ، [ ص: 234 ] وكان أبو بكر رجلا بكاء ، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم ، فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره ، فقد جاوز ذلك ، فابتنى مسجدا بفناء داره ، فأعلن في الصلاة والقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا ، فانهه ، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره ، فعل ، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك ، فسله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه . فإما أن تقتصر على ذلك ، وإما أن ترد إلي ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له . فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك ، وأرضى بجوار الله عز وجل . ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي مبسوطا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال : لقيه يعني أبا بكر الصديق حين خرج من جوار ابن الدغنة سفيه من سفهاء قريش ، وهو عامد إلى الكعبة ، فحثا على رأسه ترابا ، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ألا ترى ما يصنع هذا السفيه ؟ فقال : أنت فعلت [ ص: 235 ] ذلك بنفسك . وهو يقول : أي رب ، ما أحلمك ! أي رب ، ما أحلمك ! أي رب ، ما أحلمك !

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل : كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضا بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب ، وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة ، وحصرهم إياهم في الشعب ، وبين نقض الصحيفة ، وما كان من أمرها ، وهي أمور مناسبة لهذا الوقت ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله : من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية