الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : في تنقيح الأقوال وتصحيح الحال :

                                                                                                                                                                                                              قد بينا في السالف في كتابنا هذا وفي غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب ، وحققنا القول فيما نسب إليهم من ذلك ، وعهدنا إليكم عهدا لن تجدوا له ردا أن أحدا لا ينبغي أن يذكر نبيا إلا بما ذكره الله ، لا يزيد عليه ، فإن أخبارهم مروية ، وأحاديثهم منقولة بزيادات تولاها أحد رجلين : إما غبي عن مقدارهم ، وإما بدعي لا رأي له في برهم ووقارهم ، فيدس تحت المقال المطلق الدواهي ، ولا يراعي الأدلة ولا النواهي ; وكذلك قال الله تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص } ، أي أصدقه على أحد التأويلات ، وهي كثيرة بيناها في أمالي أنوار الفجر .

                                                                                                                                                                                                              فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قط ربه ، لا في حال الجاهلية ولا بعدها ، تكرمة من الله وتفضلا وجلالا ، أحله به المحل الجليل الرفيع ، ليصلح أن يقعد معه على كرسيه للفصل بين الخلق في القضاء يوم الحق .

                                                                                                                                                                                                              وما زالت الأسباب الكريمة ، والوسائل السليمة تحيط به من جميع جوانبه [ ص: 577 ] والطرائف النجيبة تشتمل على جملة ضرائبه ، والقرناء الأفراد يحيون له ، والأصحاب الأمجاد ينتقون له من كل طاهر الجيب ، سالم عن العيب ، بريء من الريب ، يأخذونه عن العزلة ، وينقلونه عن الوحدة ، فلا ينتقل إلا من كرامة إلى كرامة ، ولا يتنزل إلا منازل السلامة حتى تجيء بالحيي نقابا ، أكرم الخلق سليقة وأصحابا ، وكانت عصمته من الله فضلا لا استحقاقا ; إذ لا يستحق عليه شيئا رحمة لا مصلحة ، كما تقوله القدرية للخلق ، بل مجرد كرامة له ورحمة به ، وتفضل عليه ، واصطفاء له ، فلم يقع قط لا في ذنب صغير حاشا لله ولا كبير ، ولا وقع في أمر يتعلق به لأجله نقص ، ولا تعيير .

                                                                                                                                                                                                              وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول . وهذه الروايات كلها ساقطة الأسانيد ; إنما الصحيح منها ما روي عن عائشة أنها قالت : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما من الوحي شيئا لكتم هذه الآية : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه } يعني بالإسلام ، { وأنعمت عليه } يعني بالعتق ، فأعتقته : { أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } إلى قوله : { وكان أمر الله مفعولا } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا : تزوج حليلة ابنه ، فأنزل الله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } .

                                                                                                                                                                                                              وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير ، فلبث حتى صار رجلا ، يقال له زيد بن محمد ، فأنزل الله تعالى : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } .

                                                                                                                                                                                                              فلان مولى فلان ، وفلان أخو فلان ، هو أقسط عند الله يعني أنه أعدل عند الله .

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي : وما وراء هذه الرواية غير معتبر ، فأما قولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل فإنه كان معها في كل وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب ، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج ، وقد وهبته نفسها ، وكرهت غيره ، فلم تخطر بباله ، فكيف يتجدد له هوى لم يكن ، حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة . [ ص: 578 ]

                                                                                                                                                                                                              وقد قال الله له : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } . والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في المطلقات ، فكيف في المنكوحات المحبوسات ، وإنما كان الحديث أنها لما استقرت عند زيد جاءه جبريل : إن زينب زوجك ، ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرأ منها ، فقال له : اتق الله ، وأمسك عليك زوجك ، فأبى زيد إلا الفراق ، وطلقها وانقضت عدتها ، وخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على يدي مولاه زوجها ، وأنزل الله القرآن المذكور فيه خبرهما ، هذه الآيات التي تلوناها وفسرناها ، فقال : واذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك ، واتق الله في فراقها ، وتخفي في نفسك ما الله مبديه يعني من نكاحك لها ، وهو الذي أبداه لا سواه .

                                                                                                                                                                                                              وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى إذ أوحى إليه أنها زوجته لا بد من وجود هذا الخبر وظهوره ; لأن الذي يخبر الله عنه أنه كائن لا بد أن يكون لوجوب صدقه في خبره ، هذا يدلك على براءته من كل ما ذكره متسور من المفسرين ، مقصور على علوم الدين .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فلأي معنى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك زوجك ، وقد أخبره الله أنها زوجته لا زوج زيد ؟ قلنا : هذا لا يلزم ; ولكن لطيب نفوسكم نفسر ما خطر من الإشكال فيه : إنه أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبته عنها ، فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهية فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فكيف يأمره بالتمسك بها ، وقد علم أن الفراق لا بد منه ، وهذا تناقض ؟ قلنا : بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة لإقامة الحجة ، ومعرفة العاقبة ; ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان ، وقد علم أنه لا يؤمن ، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما ، وهذا من نفيس العلم ; فتيقنوه وتقبلوه .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية