الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء فهو من تتمة قوله سبحانه: هل ينظرون ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة [الأنعام: 148] في قوله سبحانه: سيقول الذين أشركوا وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة [فصلت: 14] ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: قل فلله الحجة البالغة [الأنعام: 149] وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك نحن ولا آباؤنا الذين نهتدي بهم في ديننا ولا حرمنا من دونه من شيء من السوائب والبحائر وغيرها- فمن- الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة ( ونحن ) لتأكيد ضمير ( عبدنا ) لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له، وتقدير مفعول ( شاء ) عدم العبادة مما صرح به بعضهم، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم. واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم: « ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن ».

                                                                                                                                                                                                                                      حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود، وهو معنى قولهم: علة العدم عدم علة الوجود، فالأولى أن يقدر المفعول وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك كما قال بعض المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا كما تقول الرسل [ ص: 136 ] وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه عز وجل: كذلك أي مثل ذلك الفعل الشنيع فعل الذين من قبلهم من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق فهل على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات الله تعالى وعزائم أمره ونهيه. إلا البلاغ المبين أي ليست وظيفتهم إلا الإبلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [العنكبوت: 69].

                                                                                                                                                                                                                                      وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاءوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقيقة الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين، والفاء على هذا للتعليل كأنه قيل: كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا وإلجاء اهـ، وكأني بك لا تبريه من تكلف.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله تعالى وقالوا: ( لو شاء الله ) إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه، وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجلة المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلا لأهل الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال، وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك، ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك، قال المدقق في الكشف في نظير الآية: إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه ردا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك، ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى، والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك [ ص: 137 ] ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى فهل على الرسل أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعا مجادلة المعاندين، وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشرك والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه: فهل على الرسل إلى آخره كأنه قيل: إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنها تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية