الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون . ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون [ ص: 319 ] وملئه فقال إني رسول رب العالمين، فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون . وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون . ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون . أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين . فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين . فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين . فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين . فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا إن قيل: كيف يسأل الرسل وقد ماتوا قبله؟ فعنه ثلاثة أجوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه لما أسري به جمع له الأنبياء فصلى بهم، ثم قال [له] جبريل: سل من أرسلنا قبلك . . . الآية . فقال: لا أسأل، قد اكتفيت، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا قول سعيد بن جبير، والزهري، وابن زيد; قالوا: جمع له الرسل ليلة أسري به، فلقيهم، وأمر أن يسألهم، فما شك ولا سأل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن المراد: [اسأل] مؤمني أهل الكتاب [من] الذين أرسلت إليهم الأنبياء، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين . قال ابن الأنباري: والمعنى: سل أتباع من أرسلنا قبلك، [ ص: 320 ] كما تقول: السخاء حاتم، أي: سخاء حاتم، والشعر زهير، أي: شعر زهير . وعند المفسرين أنه لم يسأل على القولين . وقال الزجاج : هذا سؤال تقرير، فإذا سأل جميع الأمم، لم يأتوا بأن في كتبهم: أن اعبدوا غيري .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: [أن] المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم: خطاب أمته، فيكون المعنى: سلوا، قاله الزجاج . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: إذا هم منها يضحكون استهزاء بها وتكذيبا .

                                                                                                                                                                                                                                      وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها يعني ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، فكانت كل آية أكبر من التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله: وأخذناهم بالعذاب ، فكانت عذابا لهم، ومعجزات لموسى عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وقالوا يا أيه الساحر في خطابهم له بهذا ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنهم أرادوا: يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنهم قالوه على جهة الاستهزاء، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إننا لمهتدون أي: مؤمنون بك . فدعا موسى، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا . وقد ذكرنا ما تركناه هاهنا في [الأعراف: 135] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: تجري من تحتي أي: من تحت قصوري أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي؟!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 321 ] أم أنا خير قال أبو عبيدة: أراد بل أنا خير . وحكى الزجاج عن سيبويه والخليل أنهما قالا: عطف "أنا" بـ "أم" على "أفلا تبصرون" [فكأنه قال: أفلا تبصرون] أم أنتم بصراء؟! لأنهم إذا قالوا: أنت خير منه، فقد صاروا عنده بصراء . قال الزجاج : والمهين: القليل; يقال: شيء مهين، أي: قليل . وقال مقاتل: "مهين" بمعنى ذليل ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولا يكاد يبين أشار إلى عقدة لسانه التي كانت به ثم أذهبها الله عنه، فكأنه عيره بشيء قد كان وزال، ويدل على زواله قوله تعالى: قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه: 36]، وكان في سؤاله: واحلل عقدة من لساني [طه: 27] . وقال بعض العلماء: ولا يكاد يبين الحجة ولا يأتي ببيان يفهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فلولا أي: فهلا ( ألقي عليه أساورة من ذهب ) وقرأ حفص عن [ ص: 322 ] عاصم: "أسورة" بغير ألف . قال الفراء: واحد الأساورة: إسوار، وقد تكون الأساورة جمع أسورة، كما يقال في جمع الأسقية: الأساقي، وفي جمع الأكرع: الأكارع . وقال الزجاج : يصلح أن تكون الأساورة جمع الجمع، تقول: أسورة وأساورة، كما تقول: أقوال وأقاويل، ويجوز أن تكون جمع إسوار، وإنما صرفت أساورة، لأنك ضممت الهاء إلى أساور، فصار اسما واحدا، وصار له مثال في الواحد، نحو "علانية" .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: إنما قال فرعون هذا، لأنهم كانوا إذا سودوا الرجل منهم سوروه بسوار .

                                                                                                                                                                                                                                      أو جاء معه الملائكة مقترنين فيه قولان . أحدهما: متتابعين، قاله قتادة . والثاني: يمشون معه، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فاستخف قومه قال الفراء: استفزهم; وقال غيره: استخف أحلامهم وحملهم على خفة الحلم بكيده وغروره فأطاعوه في تكذيب موسى .

                                                                                                                                                                                                                                      فلما آسفونا قال ابن عباس: أغضبونا . قال ابن قتيبة : الأسف: الغضب، يقال: آسفت آسف أسفا، أي: غضبت .

                                                                                                                                                                                                                                      فجعلناهم سلفا أي: قوما تقدموا . وقرأها أبو هريرة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وحميد الأعرج: "سلفا" بضم السين وفتح اللام، كأن واحدته سلفة من الناس، مثل القطعة، يقال: تقدمت سلفة من الناس، أي: قطعة منهم . وقرأ حمزة، والكسائي: "سلفا" بضم السين واللام، وهو [ ص: 323 ] جمع "سلف"، كما قالوا: خشب وخشب ، وثمر وثمر ، ويقال: هو جمع "سليف"، وكله من التقدم . وقال الزجاج : "السليف" جمع قد مضى; والمعنى: جعلناهم سلفا متقدمين ليتعظ بهم الآخرون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ومثلا أي: عبرة [وعظة] .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية