الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 236 ] نقض الصحيفة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم ، في الصحيفة التي كتبوها ، ثم إنه قام في نقض الصحيفة نفر من قريش ، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن جزيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه ، وكان هشام لبني هاشم واصلا ، وكان ذا شرف في قومه ، فكان فيما بلغني يأتي بالبعير ، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا ، قد أوقره طعاما ، حتى إذا بلغ به فم الشعب ، خلع خطامه من رأسه ، ثم ضرب على جنبيه ، فدخل الشعب عليهم ، ثم يأتي به قد أوقره برا ، فيفعل به مثل ذلك ، ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم [ ص: 237 ] وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء ، وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ، ما أجابك إليه أبدا . قال : ويحك يا هشام ! فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد ، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها . قال : قد وجدت رجلا . قال : من هو ؟ قال : أنا . قال له زهير : أبغنا ثالثا . فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له : يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف ، وأنت شاهد على ذلك . موافق لقريش فيه ؟ ! أما والله ، لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا . قال : ويحك ! فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد . قال : قد وجدت لك ثانيا . قال : من ؟ قال : أنا . قال : أبغنا ثالثا . قال : قد فعلت . قال : من هو ؟ قال : زهير بن أبي أمية . قال : أبغنا رابعا . فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي فقال : وهل تجد أحدا يعين على هذا ؟ قال : نعم . قال : من هو ؟ قال : زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك . قال : أبغنا خامسا . فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد . فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم ، فقال له : وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال : نعم . ثم سمى القوم . فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك ، وأجمعوا [ ص: 238 ] أمرهم ، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها ، وقال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم . فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة ، فطاف بالبيت سبعا ، ثم أقبل على الناس ، فقال : يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ، ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى ، لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ؟ والله ، لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة . قال أبو جهل : وكان في ناحية المسجد : كذبت ، والله لا تشق . قال زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابها حيث كتبت . قال أبو البختري : صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقر به . قال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ، ومما كتب فيها . قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك . قال أبو جهل : هذا أمر قد قضي بليل ، تشوور فيه بغير هذا المكان . وأبو طالب جالس في ناحية المسجد ، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها ، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا " باسمك اللهم " ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام : وذكر بعض أهل العلم ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طالب : " يا عم ، إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش ، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها ، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان " . فقال : أربك أخبرك بهذا ؟ قال : " نعم " . قال : فوالله ما يدخل عليك أحد . ثم خرج إلى قريش ، فقال : يا معشر قريش ! إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا ، فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال ، فانتهوا عن قطيعتنا ، وانزلوا عنها . وإن كان [ ص: 239 ] كاذبا ، دفعت إليكم ابن أخي . فقال القوم : قد رضينا فتعاقدوا على ذلك ، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزادهم ذلك شرا ، فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : فلما مزقت وبطل ما فيها ، قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة ، يمدحهم :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا على نأيهم والله بالناس أرود     فيخبرهم أن الصحيفة مزقت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأن كل ما لم يرضه الله مفسد     تراوحها إفك وسحر مجمع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد     تداعى لها من ليس فيها بقرقر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فطائرها في رأسها يتردد     وكانت كفاء وقعة بأثيمة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليقطع منها ساعد ومقلد     ويظعن أهل المكتين فيهربوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فرائصهم من خشية الشر ترعد [ ص: 240 ]     ويترك حراث يقلب أمره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أيتهم فيها عند ذاك . وينجد     وتصعد بين الأخشبين كتيبة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لها حدج سهم وقوس ومرهد     فمن ينش من حضار مكة عزه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فعزتنا في بطن مكة أتلد     نشأنا بها والناس فيها قلائل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد     ونطعم حتى يترك الناس فضلهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد     جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      على ملأ يهدي لحزم ويرشد     قعودا لدى خطم الحجون كأنهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مقاولة بل هم أعز وأمجد [ ص: 241 ]     أعان عليها كل صقر كأنه إذا ما
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مشى في رفرف الدرع أحرد     جريء على جلى الخطوب كأنه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      شهاب بكفي قابس يتوقد     من الأكرمين من لؤي بن غالب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا سيم خسفا وجهه يتربد     طويل النجاد خارج نصف ساقه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      على وجهه يسقى الغمام ويسعد     عظيم الرماد سيد وابن سيد
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يحض على مقرى الضيوف ويحشد     ويبني لأبناء العشيرة صالحا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد     ألظ بهذا الصلح كل مبرأ
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عظيم اللواء أمره ثم يحمد     قضوا ما قضوا في ليلهم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم أصبحوا على مهل وسائر الناس رقد     هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسر أبو بكر بها ومحمد     متى شرك الأقوام في جل أمرنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنا قديما قبلها نتودد     وكنا قديما لا نقر ظلامة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وندرك ما شئنا ولا نتشدد     فيال قصي هل لكم في نفوسكم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهل لكم فيما يجيء به غد [ ص: 242 ]     فإني وإياكم كما قال قائل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لديك البيان لو تكلمت أسود

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال السهيلي : أسود اسم جبل قتل به قتيل ، ولم يعرف قاتله ، فقال أولياء المقتول : لديك البيان لو تكلمت أسود . أي : يا أسود ، لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ذكر ابن إسحاق : شعر حسان يمدح المطعم بن عدي وهشام بن عمرو ; لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة . وقد ذكر الأموي هاهنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الواقدي : سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز : متى خرج بنو هاشم من الشعب ؟ قالا : في السنة العاشرة . يعني من البعثة ، قبل الهجرة بثلاث سنين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، كما سيأتي بيان ذلك ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية