الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقال أبو المعالي -وهؤلاء نفاة التعليل-: (معنى قولنا: إنه حكيم في أفعاله. أنه مصيب في ذلك ومحكم لها؛ لأنه مالك الأعيان فيتصرف تصرف مالك الأعيان في ملكه من غير اعتراض. وقد يراد بالحكمة العلم بالمعنى بكونه حكيما في فعله أنه خلقه على الوجه الذي أراده وعلمه وحكم به؛ ثم لم يكن علمه وإرادته علة لفعله ولا موجبا لقدم هذه الصفات وحدوث متعلقها ) ففسروا حكمته بمعنى أن يفعل ما يشاء بلا ذم، أو بمعنى أنه عالم. ولا ريب أن هذا خلاف ما عليه الناس في معنى الحكمة والحكيم؛ فإنهم لا يجعلون الحكمة كون الحكيم له أن يفعل ما يشاء -وإن كان الله تعالى له أن يفعل ما يشاء- لكن الحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض، لاشتمال المفعول على ما يصلح أن يكون مرادا للحكيم. وتفسيرها بمعنى العلم بالمفعولات أبعد. ومع هذا فقول أبي المعالي وأمثاله [ ص: 53 ] في الفقه وأصوله يخالف هذا الأصل؛ بخلاف غيره من المتكلمين الذين لم يكونوا في الفقه كبراعة أبي المعالي، فإنه يقول بالعلل المناسبة للأحكام التي تفسر بالباعث والداعي وإثباتها ينافي هذا الأصل.

ثم قال أبو المعالي: (ونحن لا ننكر أن يكون الله تعالى خلق من نفعه بخلقه ومن ضره بخلقه، والذي ننكره من الغرض وننفيه عن القديم سبحانه قيام حادث بذاته كالإرادة والداعية والحاجة، والمعتزلة يوافقونا على استحالة قيام الحوادث بذاته، غير أنهم أثبتوا للقديم سبحانه أوصافا متجددة وأحوالا من الإرادات التي يحدثها لا في محل، والمحذور من قيام الحوادث بذات الباري تعالى تجدد الأوصاف عليه، وقد ألزموه ).

قال أبو المعالي: (فإن قال قائل: القديم إنما خلق العالم إظهارا لقدرته وإظهارا لحجج وآيات يستدل بها على إلهيته، ويعرف سبحانه وتعالى بنعوته وجلاله وصفاته، ويعبد ويعظم، ويستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل، ويستوجب المعرض عنها العذاب الأليم، وهذا منصوص عليه في الكتاب العزيز في آي كثيرة لا تحصى من ذلك قوله تعالى: وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [الجاثية: 22 ] [ ص: 54 ] وقد قال تعالى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ص: 27 ] وقوله تعالى عن المؤمنين القائلين: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران: 191 ]. وقال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق: 12 ] قال: (وهذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد ). فقال في الجواب: ("اللام" في قوله: خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا [الطلاق: 12 ] ليست اللام لام علة، وإنما هي لام صيرورة، وتكون غاية، أي: ليعلم من في المعلوم أنه يعلم، وليجزى على ذلك، ويعرض ويعاند من في المعلوم أنه يعاند، و ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم: 31 ].

قلت: لام الصيرورة إما أن تكون لمن لا يريد الغاية، وذلك إنما يكون لجهل الفاعل بالغاية، كقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا [القصص: 8 ] وإما لعجزه عن دفعها وإن كان كارها لها، كقول القائل: [ ص: 55 ]

لدوا للموت وابنوا للخراب


وللموت ما تلد الوالدة

فأما العالم بالعاقبة القادر على وجودها ومنعها فلا يتصور أن تكون العاقبة إلا وهو عالم بها قادر عليها، والموجود الذي يحدثه الله وهو عالم به قادر عليه لا يكون إلا وهو مريد له؛ بل أبو المعالي وسائر المثبتين يسلمون أنه لا يكون شيء إلا بمشيئته، فيكون مريدا للغاية. ومريد الغاية التي للفعل لا يكون اللام في حقه لام صيرورة؛ إذ لام الصيرورة إنما يكون في حق من لا يريد. فلو قال: إرادته لهذه الغايات كإرادته للأفعال التي [ ص: 56 ] هي سببها: لكان أمثل. مع أن هذا الكلام لا يدفع الحجة من الآية؛ فإن القرآن يشهد بأن الله خلق المخلوقات لحكمة لكن ليس هذا موضع تحقيق ذلك وإزالة الشبهة العارضة فيه.

قال الحفيد: (وأما القضية الثانية وهي القائلة: إن الجائز محدث. فهي مقدمة غير بينة بنفسها، وقد اختلف فيها العلماء، فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائزا أزليا، ومنعه أرسطاطاليس، وهو مطلب عويص، ولن تتبين حقيقته إلا [ ص: 57 ] لأهل صناعة البرهان، وهم العلماء الذين خصهم الله تعالى بعلمه، وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته ).

قلت: قد قدم فيما مضى أن أفلاطون وشيعته يقولون: إن الزمان متناه، وأنهم يقولون: العالم محدث أزلي لكون الزمان متناهيا عندهم في الماضي، وأن أرسطو وفرقته يقولون: الزمان غير متناه في الماضي، كما لا يتناهى في المستقبل، ولا يسمون العالم محدثا، وهذا يقتضي أن الأزلي في هذا الكلام المراد به الأبدي الذي لا آخر له، وإلا تناقض الكلام. وأفلاطون وشيعته يقولون: هو محدث جائز، لكنه يكون مع ذلك أبديا، والجائز [ ص: 58 ] يمكن أن يكون أبديا. وأما أرسطو فيقول: ما كان محدثا عن عدم فلا بد له من آخر،، فالجائز لا يكون أبديا، وهذا الذي قاله أرسطو هو الذي تقدم قول الحفيد له: إن كل محدث فهو فاسد ضرورة. فهذا قول معلم طائفته أرسطو، وهو أيضا قول طائفة ممن يقول بحدوث العالم كالجهم بن صفوان، ومن يقول بوجوب فناء الحوادث. وأما الذي حكاه عن أفلاطون فهو قول أهل الملل: إن الله يخلق شيئا للبقاء ويخلق شيئا للفناء كما يشاء. ومع هذا فالذي ينقلونه عن أرسطو أن النفوس الناطقة عنده محدثة فتكون جائزة، وهي مع هذا أبدية باقية: [ ص: 59 ] فهذا يناقض ما أصله.

فهذا القدر الذي تبين يدل على أن ما حكاه عن هذين الفيلسوفين وأصحابهما اتفاق منهم على أن ما كان جائزا فهو محدث. فإذا كان قد ثبت أن العالم جائز ثبت أنه محدث؛ ولهذا منع هو كونه جائزا، وغلط ابن سينا في قوله: إنه جائز بنفسه، مع موافقته له على قدمه.

فأما الذي فهمه من كلامهم في هذا المقام واعترض به وهو أن يقول عن أفلاطن: إن الجائز يكون أزليا، فهذا لا يناسب ما تقدم، فإنه [ ص: 60 ] إذا كان قول أفلاطن إن العالم لم يتقدمه زمان، وعنده أن الزمان متناه في الماضي ثبت أنه ليس بأزلي، فأي حقيقة لقوله: الجائز لا يكون أزليا -أي قديما- لامتنع أن يكون عنده شيء من الممكن بذاته أزليا. وهو خلاف قوله. فهذا النقل وقع فيه غلط إما لفظ "الجائز" وإما لفظ "الأزلي".

ثم يقال له: يا سبحان الله ! من الذي جعل هذه الطائفة من اليونان وأتباعهم هم العلماء دون سائر الأمم وأتباع الأنبياء الذين لا يختلف [من ] له عقل ودين أنهم أعلم منهم ! ! وأي برهان عندهم يتبين به هذه الحقيقة. وقد ذكرت أن نفس أهل صناعة البرهان تنازعوا فيها، فلو كان ذلك منكشفا بصناعتهم لم يتنازع أئمة الصناعة فيها.

ثم يقال: ومن الذي خص هؤلاء بكونهم أهل البرهان، مع أن غاية ما يقولونه في العلم الإلهي لا يصلح أن يكون من [ ص: 61 ] الأقيسة الخطابية والجدلية، فضلا عن البرهانية؟ !

ثم يقال: وكيف يستحسن عاقل أن يجعل المتكلمين -على عجرهم وبجرهم- أهل جدل وهؤلاء أهل برهان، مع أن بين تحقيق المتكلمين للعلم الإلهي بالأقيسة العقلية وبين [ ص: 62 ] تحقيقهم تفاوت يعرفه كل عاقل منصف، والقوم لم يتميزوا بالعلم الإلهي ولا نبل أحد باتباعهم فيه، بل الأمم متفقة على ضلالهم فيه إلا من قلدهم، ولكن يؤثر عنهم من الكلام في الأمور الطبيعية والرياضية ما شاع ذكرهم بسببه، ولولا ذلك لما كان لهم ذكر عند الأمم، كيف يستجيز مسلم أن يقول: إن العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه هم أهل المنطق، مع علمه بأن أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا مرادين من هذا الخطاب قطعا؛ بل هم أفضل من أريد به بعد الأنبياء، وقد ماتوا قبل أن تعرب كتب اليونان بالكلية؟ ! وإن أراد بذلك البرهان العقلي الذي لا يختص باصطلاح اليونان فلا اختصاص لهؤلاء به، بل الصحابة والتابعون أحذق منهم في المعقولات التي ينتفع بها في الإلهية بما لا نسبة بينهما في ذلك.

ثم العلماء الذين أثنى الله عليهم هم الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو، ومن المعلوم لكل من عرف أحوال الأمم أن أهل الملل [ ص: 63 ] أحق بهذا التوحيد من الصابئة الذين هم أهل دمن الفلاسفة، ومن المشركين الذين فيهم فلاسفة كثيرون، بل كانت اليونان [ ص: 64 ] منهم. والمسلمون وعلماؤهم [أحق ] بهذه الشهادة من الأولين والآخرين، بل يقال لك: نحن لا نعلم أن هؤلاء القوم كانوا يشهدون بهذه الوحدانية، فإن الذي في الكتب المنقولة عنهم من التوحيد إنما مضمونه نفي الصفات كما تقوله الجهمية، ومعلوم أن هذا ليس الشهادة بأنه لا إله إلا الله؛ بل قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا التوحيد، والقرآن مملوء منه، ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات، ولا قال ذلك أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا، وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم فلا يمكنه أن يدعي تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم، وهم الذين تعلموا من الرسول لفظه ومعناه، وهم الذين أدوا ذلك إلى من بعدهم، قال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان [ ص: 65 ] [و] عبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، [ ص: 66 ] قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل، وليس معه ما يعتمد عليه، أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، بل لو قيل: كانوا مشركين لكان أقرب، فإنه من المشهور في أخبار اليونان أهل مقدونية وغيرها أنهم كانوا مشركين: يعبدون الأصنام والكواكب، وهؤلاء الفلاسفة يسمون الكواكب الآلهة الصغرى والأرباب، وفي "كتاب لسقراط " و"النواميس" [ ص: 67 ] لأفلاطن وغيرهما من ذلك أمور كثيرة، وقد ذكر هذا الرجل عنهم أن أكثرهم انتهى نظرهم إلى الفلك فلم يثبتوا وراءه موجودا، ومعلوم أن الذي أثبتوا من واجب الوجود هو أدعى شيء إلى عبادة الكواكب والأصنام، فكيف يكون هؤلاء هم أهل العلم بشهادة أن لا إله إلا الله، بل إذا قيل: إن هؤلاء وأمثالهم أصل كل شرك، وأنهم سوس الملل، وأعداء الرسل: لكان هذا الكلام أقرب إلى الحق من شهادته لهم بما ذكره.

قلت: ومقتضى ما ذكره هو وذكره عن هؤلاء الفلاسفة أن ما ثبت فيه أنه ممكن جائز وجب أن يكون محدثا، وأن القديم لا يكون إلا واجبا. فمتى ثبت أنه جائز ثبت أنه محدث، وقد تقدم التنبيه على ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية