الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب حد السرقة عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم وفي رواية علقها البخاري ووصلها مسلم قيمته : .

                                                            التالي السابق


                                                            باب حد السرقة .

                                                            (الحديث الأول) : عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم : (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) : أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من طريق مالك والشيخان والنسائي وابن ماجه من طريق عبد الله بن عمر والشيخان والنسائي من طريق موسى بن عقبة والبخاري تعليقا ومسلم والترمذي من طريق الليث بن سعد بلفظ قيمته ومسلم وأبو داود والنسائي . [ ص: 23 ] من طريق إسماعيل بن أمية ومسلم والنسائي من طريق أيوب السختياني وأيوب بن موسى وحنظلة بن أبي سفيان والبخاري فقط من طريق جويرية بن أسماء ومسلم فقط من طريق أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر والبخاري تعليقا من طريق محمد بن إسحاق كلهم وهم اثنا عشر عن نافع عن ابن عمر وقال ابن حزم لم يروه أحد إلا نافع عن ابن عمر هكذا رواه عنه الثقات الأئمة فذكر هؤلاء الاثني عشر إلا أسامة وعبد الله بن عمر وزاد إسماعيل بن علية وحماد بن زيد ثم قال وغير هؤلاء ممن لا يلحق بهؤلاء ولا يختلف في اللفظ قال ثمنه : ورواه بعض الثقات أيضا عن حنظلة بن أبي سفيان فقال قيمته خمسة دراهم : انتهى .

                                                            وهذه الرواية التي أشار إليها بلفظ خمسة رواها النسائي عن عبد الحميد بن محمد بن مخلد بن يزيد عنه والمشهور عنه ما تقدم وقال ابن عبد البر هذا أصح حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب لا يختلف أهل العلم بالحديث في ذلك .

                                                            (الثانية) : فيه وجوب قطع السارق في الجملة ، وهو مجمع عليه ونص عليه القرآن الكريم ، وشرع الله عز وجل ذلك صيانة للأموال ولم يجعله في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب ، وسببه : كما قال بعضهم إن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة ولأنه يمكن استرجاع هذه الأنواع بالاستعداء إلى ولاة الأمور وتتيسر إقامة البينة بخلاف السرقة فإنه تعسر إقامة البينة عليها فعظم أمرها واشتدت عقوبتها ليكون أبلغ في الزجر عنها وقد عسر على بعضهم فهم هذا المعنى ورأى أن إثبات القطع في السرقة دون الغصب مما لا يعقل معناه وقال إن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة وجعل ذلك شبهة له في إنكار القياس ؛ لأنه ثبت في هذه الشريعة مثل هذه الأحكام التي لا مجال للعقل فيها وهذا قول ضعيف مردود بينا فساده في الأصول .



                                                            (الثالثة) : في تقييد القطع بهذا القدر من السرقة إشارة إلى اعتبار النصاب في المسروق وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف وبه قال الأئمة الأربعة وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يشترط النصاب بل يقطع في القليل والكثير وبه قال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي وحكاه القاضي عن الحسن البصري [ ص: 24 ] والخوارج وأهل الظاهر وتمسك هؤلاء بظاهر قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما مع قوله عليه الصلاة والسلام لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده .

                                                            وذهب ابن حزم إلى القطع في القليل والكثير إلا أن يكون المسروق من الذهب فلا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدا لحديث عائشة الثابت في الصحيح لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا .

                                                            وتمسك الجمهور بهذا الحديث وبحديث ابن عمرو وغيرهما من الأحاديث الدالة على اعتبار النصاب ثم اختلفوا في قدره على أقوال :

                                                            (أحدهما) : وبه قال الشافعي إنه ربع دينار ذهبا أو ما قيمته ربع دينار سواء أكانت قيمته ثلاثة دراهم أو أكثر أو أقل فجعل الذهب هو الأصل اعتمادا على حديث عائشة فإنه تحديد من الشارع بالقول لا يجوز الخروج عنه وقوم ما عداه به ولو كان المسروق فضة وقال إن ذلك لا ينافي حديث ابن عمر ؛ لأن ربع الدينار في ذلك الوقت كان ثلاثة دراهم ؛ لأن صرف الدينار كان اثني عشر درهما ؛ ولهذا كانت الدية عند من جعلها بالنقد ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم ثم قال أصحابنا الاعتبار بالذهب المضروب فبه يقع التقويم حتى لو سرق شيئا يساوي ربع مثقال من غير المضروب كالسبيكة والحلي ولا يبلغ ربعا مضروبا فلا قطع ومال القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية إلى هذا فقال الصحيح أن القيمة هي في الذهب لا في الدراهم ؛ لأنه الأصل في جواهر الأرض وغيره تبع قال النووي وبهذا قال كثيرون أو الأكثرون وهو قول عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث وأبي ثور وإسحاق وغيرهم وروي أيضا عن داود .

                                                            قال الخطابي روي ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وهو أصح وأن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير فجاز أن تقوم بها الدراهم ولم يجز أن تقوم الدنانير بالدراهم ولهذا كتب في السكوك قديما عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والدنانير لا تختلف اختلاف الدراهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ خذ من كل حالم دينارا .

                                                            وروي عن عثمان أنه قطع سارقا في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار فدل على [ ص: 25 ] أن العبرة للذهب .

                                                            (القول الثاني) : أنه إن كان المسروق ذهبا فالنصاب ربع دينار وإن كان فضة فالنصاب ثلاثة دراهم وإن كان غيرهما فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به ، وإن لا فلا وهذا هو المشهور من مذهب مالك وهو رواية عن أحمد وهو ظاهر هذا الحديث فإنه لما قوم غير الذهب والفضة بالفضة دل على أنها أصل في التقويم وأجاب عنه الخطابي بأن العادة جارية بتقويم الشيء التافه بالدراهم وإنما تقوم الأشياء النفيسة بالدنانير ؛ لأنها أنفس النقود وأكرم جواهر الأرض فتكون الدراهم الثلاثة ربع دينار والله أعلم .

                                                            (القول الثالث) : كالذي قبله إلا أنه إذا كان المسروق غيرهما يقطع به إذا بلغت قيمته أحدهما وهذا هو المشهور من مذهب أحمد وهو رواية عن إسحاق .

                                                            (القول الرابع) : كالذي قبله إلا أنه لا يكتفى في غيرهما ببلوغ قيمة أحدهما إلا إذا كانا غالبين وهو قول في مذهب مالك .

                                                            (القول الخامس) : كالذي قبله إلا أنه اعتبر في غيرهما أن يبلغ ما يباع به منهما غالبا .

                                                            (القول السادس) : أن النصاب ثلاثة دراهم ويقوم ما عداها بها ولو كان ذهبا وهو رواية عن أحمد أيضا ، وحكاه الخطابي عن مالك وهو عكس مذهب الشافعي الذي قدمناه أولا .

                                                            (القول السابع) : أن النصاب خمسة دراهم وهو قول سليمان بن يسار وابن شبرمة وابن أبي ليلى والحسن في رواية عنه وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه قال لا تقطع الخمس إلا في خمس قال ابن العربي إذا قطعنا الخمس بخمس فبأي نقطع الكف الزائدة .

                                                            وقال الترمذي روي عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما قالا تقطع اليد في خمسة دراهم .

                                                            (القول الثامن) : أن النصاب عشرة دراهم مضروبة أو ما تبلغ قيمته ذلك وإن كان ذهبا وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري .

                                                            (القول التاسع) : أنه أربعة دراهم حكاه القاضي عياض عن بعض أصحابه .

                                                            (العاشر) : أنه درهم حكي عن عثمان البتي (الحادي عشر) : أنه درهمان حكي عن الحسن البصري .

                                                            (الثاني عشر) : أنه أربعون درهما أو أربعة دنانير حكي عن إبراهيم النخعي .

                                                            (الثالث عشر) : أنه إن كان المسروق ذهبا فنصابه ربع دينار وإن كان من غيره فيقطع في كل ما له قيمة وإن قلت ، وقد تقدم أن هذا مذهب ابن حزم وحكاه هو عن طائفة . [ ص: 26 ] الرابع عشر) : أن النصاب ثلث دينار أو ما يساويه .

                                                            (الخامس عشر) أنه دينار أو ما يساويه .

                                                            (السادس عشر) : أنه دينار أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحدهما حكى ابن حزم كلا من هذه المذاهب الثلاثة عن طائفة وقال الترمذي عن ابن مسعود إنه قال لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم وهو حديث مرسل رواه القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود ولم يسمع منه وقال ابن حزم إنه حديث موضوع مكذوب لا ندري من رواه ؛ وروى أبو داود والنسائي عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم : وحكى الخطابي هذا المذهب الأخير عن سفيان الثوري وأهل الرأي وقال النووي بعد حكايته ثمانية مذاهب من هذه والصحيح ما قاله الشافعي وموافقوه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح ببيان النصاب في هذه الأحاديث من لفظه وأنه ربع دينار .

                                                            وأما باقي التقديرات فمردودة لا أصل لها مع مخالفتها لصريح هذه الأحاديث وأما رواية أنه صلى الله عليه وسلمقطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم فمحمول على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعدا وهي قضية عين لا عموم فيها ولا يجوز ترك صريح لفظه في تحديد النصاب بهذه الرواية المحتملة بل يجب حملها على موافقة لفظه صلى الله عليه وسلم وكذلك الرواية الأخرى لم يقطع يد السارق في أقل من مجن : محمول على أنه كان ربع دينار ولا بد من هذا التأويل ليوافق صريح تقديره صلى الله عليه وسلم وأما ما يحتج به بعض الحنفية وغيرهم من رواية جاءت قطع في مجن قيمته عشرة دراهم : وفي رواية خمسة فهي رواية ضعيفة لا يعمل بها لو انفردت فكيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة الصريحة في التقدير بربع دينار مع أنه يمكن حملها على أنه قيمته عشرة دراهم اتفاقا لا أنه شرط ذلك في قطع السارق وليس في لفظها ما يدل على تقدير النصاب بذلك وأما رواية لعن الله السارق يسرق البيضة أو الحبل فتقطع يده : فقال جماعة المراد بها بيضة الحديد وحبل السفينة وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار وأنكر المحققون هذا وضعفوه وقالوا بيضة الحديد وحبل السفينة لهما قيمة ظاهرة وليس هذا السباق موضع استعمالها بل بلاغة الكلام تأباه ؛ لأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء . [ ص: 27 ] له قدر وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له فهو موضع تقليل لا تكثير والصواب أن المراد التنبيه على عظم ما خسر وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة أو أراد جنس البيض وجنس الحبال أو أنه إذا سرق البيضة فلم يقطع ، جره إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع ، وكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه أو أن المراد به قد يسرق البيضة أو الحبل فيقطعه بعض الولاة سياسة لا قطعا جائزا شرعا وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة من غير بيان نصاب فقال على ظاهر اللفظ انتهى . وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة الاستدلال بحديث ابن عمر على اعتبار النصاب ضعيف فإنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار فعلا عدم القطع فيما دونه واعتماد الشافعي على حديث عائشة وهو قول وهو أقوى في الاستدلال من الفعل وهو قوي في الدلالة على الحنفية فإنه يقتضي صريحه القطع في هذا المقدار الذي لا يقولون بجواز القطع به .

                                                            وأما دلالته على الظاهرية فليس من حيث النطق بل من حيث المفهوم وهو داخل في مفهوم العدد ومرتبته أقوى من مفهوم اللقب والحنفية يقولون في حديث ابن عمر وفي رواية الفعل في حديث عائشة إن التقويم أمر ظني تخميني فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة ربع دينار أو ثلاثة دراهم ويكون عند غيرها أكثر وضعف غيرهم هذا التأويل وشنعه عليهم بأن عائشة لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع .

                                                            (الرابعة) : في أكثر الروايات ثمنه ثلاثة دراهم وفي بعضها قيمته وهي أصح معنى قال الشيخ تقي الدين والقيمة والثمن يختلفان في الحقيقة والمعتبر القيمة وما ورد من ذكر الثمن فلعله لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت أو في ظن الراوي أو باعتبار الظنة وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه فيه مالكه لم يعتبر إلا القيمة .

                                                            (الخامسة) : (المجن) : بكسر الميم وفتح الجيم الترس مفعل من معنى الاجتنان وهو الاستتار والاختفاء وما يقارب ذلك ومنه المجن وكسرت ميمه ؛ لأنه آلة في الاجتنان كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره قال الشاعر

                                                            فكــان مجــني دون مــن كـنت أتقـي ثلاث شـــخوص كاعبـــان ومعصـــر

                                                            .




                                                            الخدمات العلمية