الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الغلول

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من حنين وهو يريد الجعرانة سأله الناس حتى دنت به ناقته من شجرة فتشبكت بردائه حتى نزعته عن ظهره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا علي ردائي أتخافون أن لا أقسم بينكم ما أفاء الله عليكم والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس فقال أدوا الخياط والمخيط فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة قال ثم تناول من الأرض وبرة من بعير أو شيئا ثم قال والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          13 - باب ما جاء في الغلول

                                                                                                          بضم المعجمة واللام أي الخيانة في المغنم ، سمي بذلك لأن آخذه يغله أي يخفيه في متاعه وأجمعوا على أنه من الكبائر وفي قوله تعالى : ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) ( سورة آل عمران : الآية 161 ) وعيد عظيم .

                                                                                                          994 978 - ( مالك عن عبد الرحمن بن سعيد ) بن قيس الأنصاري ، الثقة المأمون أخو يحيى بن سعيد ، روى عنه جماعة من الأئمة ومات سنة تسع وثلاثين وقيل سنة إحدى وأربعين ومائة ، له في الموطأ مرفوعا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها ( عن عمرو ) بفتح العين ( بن شعيب ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي صدوق مات سنة ثماني عشرة ومائة ، قال ابن عبد البر : لا خلاف عن مالك في إرساله ووصله النسائي قال الحافظ بإسناد حسن من [ ص: 43 ] طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأخرجه النسائي أيضا بإسناد حسن من حديث عبادة بن الصامت ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صدر ) رجع ( من حنين وهو يريد الجعرانة ) بكسر الجيم وسكون العين وخفة الراء وبكسر العين وشد الراء والأولى أفصح ( سأله الناس ) وزاد في الطريق الموصولة فقالوا : اقسم علينا فيئنا ( حتى دنت به ناقته من شجرة ) أي سمرة بفتح الميم من شجر البادية ذات شوك ، ففي الصحيح عن جبير بن مطعم : أنه بينما هو يسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مقفلة من حنين فعلقت الناس الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة ( فتشبكت بردائه ) أي علق شوكها به ( حتى نزعته عن ظهره ) وفي حديث جبير : فخطفت رداءه وهو مجاز والمراد خطفته الأعراب ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) زاد النسائي : يا أيها الناس ( ردوا علي ردائي ) وفي حديث جبير فوقف وقال : أعطوني ردائي يعني خلصوه من الشجرة وأعطوه لي ، وإن كانوا خطفوه فالرد بلا تخليص ( أتخافون أن لا أقسم بينكم ما أفاء ) رد ( الله عليكم ) من الغنيمة ، وأصل الفيء الرد والرجوع ، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئا لرجوعه من جانب إلى جانب ، فكأن أموال الكفار سميت فيئا لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل والكفر طار عليه .

                                                                                                          ( والذي نفسي بيده ) إن شاء أبقاها وإن شاء أخذها وهو قسم كان يقسم به كثيرا ( لو أفاء ) بالهمز ولا يجوز الإبدال ( الله عليكم مثل سمر ) بفتح الميم شجر ( تهامة ) جمع سمرة بالتاء شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب قاله ابن التين ، وقال الداودي : هي العضاه بكسر المهملة وفتح المعجمة الخفيفة آخره هاء وصلا ووقفا شجر الشوك كطلح وعوسج وسدر ، وقال الخطابي : ورق السمرة أثبت وظلها أكثف ويقال هي شجرة الطلح ، وللنسائي : " لو أن لكم بعدد شجر تهامة " وفي حديث جبير : " لو كان لي عدد هذه العضاه " ( نعما ) بفتحتين والنصب على التمييز ( لقسمته عليكم ) وفي رواية بينكم ( ثم لا تجدوني ) بنون واحدة ، وفي رواية : تجدونني بنونين ( بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ) أي إذا جربتموني لا تجدوني ذا بخل ولا ذا جبن ولا ذا كذب ، فالمراد نفي الوصف من أصله لا نفي المبالغة التي دل عليها الثلاثة ; لأن كذابا من صيغ المبالغة ، و جبانا صفة مشبهة ، وبخيلا محتمل الأمرين ، قال ابن المنير : وفي [ ص: 44 ] جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين لطيفة لأنها متلازمة ، وكذا أضدادها الصدق والكرم والشجاعة ، وأصل المعنى هنا الشجاعة ، فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه فبالضرورة لا يبخل ، وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد لأن الخلف إنما ينشأ من البخل ، وقوله : " لو كان لي عدد هذه العضاه " تنبيه بطريق الأولى لأنه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى ، واستعمال ثم هنا ليس مخالفا لمقتضاها وإن كان الكرم يتقدم العطاء ، لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء ، وليس المراد بثم الدلالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء وإنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف كأنه قال : وأعلى من العطاء بما لا يتعارف أن يكون العطاء عن كرم ، فقد يكون عطاء بلا كرم كعطاء البخيل ونحو ذلك انتهى .

                                                                                                          وفيه ذم الخصال المذكورة وأن الإمام لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها ، وفيه ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب ، وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك ، ولا يكون من الفخر المذموم ورضى السائل بالحق للوعد إذا تحقق من الواعد التنجيز ، وأن الخيار للإمام في قسم الغنيمة إن شاء بعد فراغ الحرب وإن شاء بعد ذلك .

                                                                                                          ( فلما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) عن ناقته ( قام في الناس : فقال أدوا الخياط ) بكسر المعجمة وتحتية بزنة لحاف أي الخيط بدليل رواية الخائط وأعد الخيوط المعروفة وإن احتمل الخياط الإبرة لكن يدفعه قوله : ( والمخيط ) بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح الياء فإنه الإبرة بلا خلاف ، وهذا خرج على التقليل ليكون ما فوقه أولى بالدخول في معناه ( فإن الغلول عار ) شيء يلزم منه شين أو سبة في الدنيا ( ونار ) يوم القيامة ( وشنار ) بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فألف فراء أقبح العيب والعار ( على أهله يوم القيامة ) قال ابن عبد البر : الشنار لفظة جامعة لمعنى النار والعار ومعناها الشين والنار يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا وعذاب ونار في الآخرة .

                                                                                                          ( قال : ثم تناول من الأرض وبرة ) بفتح الموحدة والراء شعرة ( من بعير أو شيئا ) شك الراوي ، وللنسائي : " ثم مال إلى راحلته فأخذ منها وبرة فوضعها بين إصبعيه " ( ثم قال : والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه ) الوبرة ( إلا الخمس ) فإنه لي أعمل فيه برأيي ( والخمس مردود عليكم ) باجتهادي لأن الأربعة الأخماس مقسومة على المقاتلين : الشريف والمشروف والرفيع والوضيع والغني [ ص: 45 ] والفقير والسواء ، لا مدخل فيها للاجتهاد بالاتفاق المتلقى لكن اختلف في سهم الفارس كما تقدم .

                                                                                                          زاد النسائي : " فقام رجل ومعه كبة شعر فقال : يا رسول الله أخذت هذه لأصلح بها بردعة ، فقال : أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك ، فقال : أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي فيها ونبذها " وروى عبد الرزاق أن عقيل بن أبي طالب دخل على امرأته فاطمة بنت شيبة يوم حنين وسيفه ملطخ دما فقال : دونكي هذه الإبرة تخيطين بها ثيابكي فدفعها إليها فسمع المنادي يقول : من أخذ شيئا فليرده حتى الخيط والمخيط فرجع عقيل فأخذها فألقاها في الغنائم .




                                                                                                          الخدمات العلمية